بين الدولتين الكردية والفاطمية.. تساؤلات طريفة!

TT

ليس بمستغرب أن تصدر تصريحات ودعوات من الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي ـ هناك من يرى أن بعضها يدخل في خانة الفانتازيا السياسية ـ فهذا ما تعوّد الشارع العربي على سماعه منذ جلوسه على كرسي الحكم في 1969 إلى يومنا هذا، مثل دعوته إلى تشكيل دولة «إسراطين» التي تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين في كيان جغرافي وسياسي واحد كحل نهائي وناجع للصراع الطويل، أو مثل تأييده للدولة الكردية المستقلة الشاملة لكل أجزاء كردستان، ومؤخرا دعوته إلى إحياء الدولة الفاطمية التي تشمل مصر وبعض الدول في شمال أفريقيا. هذه الدعوات دائما ما كانت تشكل زوبعة مؤقتة يرد عليها المعنيون وغير المعنيين ثم تُنسى من بين ملفات التاريخ المعاصر ولا يُلقى لها بال.

فيما يتعلق بالكرد، فإن الزعيم الليبي يرى أنه ليس هناك حل نهائي وناجع لقضيتهم، إلا بتشكيل دولتهم المستقلة التي تشمل كل أجزاء كردستان المقسمة. وإن ترؤس جلال طالباني للجمهورية العراقية وتسنم هوشيار زيباري لقمة الهرم الدبلوماسي والخارجية العراقية، ليس بشيء مقارنة بالحقوق القومية للكرد وتاريخهم الطويل في النضال من أجل نيل تلك الحقوق، بل إنهم قد «خرجوا من المولد بلا حمص» بعد الإطاحة بالنظام العراقي السابق، كما أشار في مقال له منشور على موقعه الإلكتروني.

لكن الكرد تتفاوت ردات فعلهم إزاء هذا الموقف من القذافي، فبعضهم فرحون به أشد الفرح ويعولون عليه ببعض الآمال، وبعضهم لا يعيرونه أي اهتمام لعدم وجود تأثير كبير لمواقف القذافي على قرارات المجتمع الدولي، أو بسبب علاقاته غير المستقرة والمتذبذبة مع الآخرين، وبعضهم الآخر يرى في القذافي نسخة أخرى لرئيس النظام العراقي السابق صدام حسين من جهة سياساته الداخلية وتعامله مع شعبه، ولو بنسبة أقل وكيفية أخرى. فإذا فرحوا بتأييد القذافي لهم وهللوا له، فلا يبقى في أيديهم أي مبرر لإلقاء اللوم والعتب على بعض الأطراف الفلسطينية التي يرفع أتباعها صور صدام ـ الذي ساندهم ظاهرا وبقليل من الأموال نسبيا ـ في أي مظاهرة عن الوضع في العراق أو ضد أميركا.

ولكن لا يخفى أن الكرد كلهم يثمنون عاليا مواقف بعض القادة التاريخيين الذين كانوا رموزا للوطنية والنضال من أجل التحرر، مثل موقف المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا الذي رفض تسلم جائزة أتاتورك الممنوحة له من الدولة التركية، وحينما سئل عن سبب رفضه تلك الجائزة قال بما معناه: «أن تعيش يوماً واحداً كردياً في تركيا، تعرف سبب رفضي لهذه الجائزة»، أو موقف جمال عبد الناصر الذي سمح للأكراد بتأسيس أول إذاعة كردية في القاهرة عام 1957، وعندما اعترض سفير تركيا لدى مصر على ذلك رد عليه قائلا «إنكم لا تعترفون بوجود غير الأتراك في تركيا، فما هو سبب غضبكم من هذا الأمر؟» فأسقط في يد السفير وبهت الذي «اعترض».

أما دعوة الزعيم الليبي إلى إعادة تشكيل الدولة الفاطمية، فحسب ما يروى، فإن هذه الدولة قد أطاح بها الأكراد الأيوبيون (صلاح الدين وعائلته) وأسسوا على أنقاضها الدولة الأيوبية التي شملت أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي آنذاك.

ويرى المؤمنون بـ«نظرية المؤامرة» أن الغرب قد انتقم من الأكراد الذين استردوا القدس من الصليبيين، بتقسيم أرضهم على دول عدة وجعلهم أقليات فيها وحرمانهم من إقامة دولة خاصة ومستقلة، كما أن عدم دعمهم ومساندتهم في سعيهم لتأسيس كيانهم المستقل يعود إلى الخوف من أن يخرج من بين ظهرانيهم صلاح الدين آخر يقود الأمة إلى تحرير القدس من بين براثن «الصهيونية العالمية». ويستدل المؤمنون بهذه النظرية بالواقعة التاريخية التي ـ في رأيهم ـ تفوح منها رائحة الحقد التاريخي الدفين على صلاح الدين وأبناء جلدته، وهي: أنه عندما دخل الجنرال الفرنسي غورو دمشق عام 1920، كان أول ما قام به هو أن زار قبر صلاح الدين ووقف أمامه بزهو ليقول: «ها قد عدنا يا صلاح الدين». وهنا ربما يتبادر إلى ذهن البعض سؤال طريف ولو من باب التندر، وهو: ألا يخشى العقيد أن يعيد التاريخ نفسه ويخرج في الدولة الكردية التي يؤيد تأسيسها كحق مشروع للأكراد، من يسعى إلى هدم الدولة الفاطمية التي يدعو إلى تشكيلها في مصر وشمال القارة الأفريقية؟ سؤال ربما يدور في خلد من يؤمن بنظرية المؤامرة وبأن التاريخ يمكن أن يكرر نفسه أكثر من مرة، أقول ربما.

وهناك مفارقة أخرى ينبغي الوقوف عندها ودراستها، وهي أن الأكراد (الأيوبيين) من جهة أطاحوا بالدولة الفاطمية وحوّلوها من دولة تتبنى المذهب الشيعي الإسماعيلي إلى دولة سنية. ومن جهة أخرى يقول بعض المؤرخين، مثل المؤرخ الإيراني أحمد خوسروي أو روجر سافوري في كتابه «إيران تحت الحكم الصفوي»، إن الصفويين الذين حوّلوا إيران من دولة سنية إلى دولة شيعية المذهب هم أكراد من الناحية القومية.

وإذا أضفنا إلى هذا، قول بعض الرواة في التاريخ الإسلامي من أن أبا مسلم الخراساني الذي كان له الدور الرئيسي في الإطاحة بالدولة الأموية ومساندة بني العباس في تأسيس دولتهم، كان كرديا، والذي كان جزاؤه جزاء سنمار حين احتال عليه أبو جعفر المنصور واتهمه بالخيانة وقتله بعد أن أعطاه الأمان واستدرجه إلى مجلسه، حتى أن شاعر البلاط العباسي وظريفه أبو دلامة يقول فيه:

أبـا مجـرم ما غيّر الله نعـمة

على عبد حتى يغيّرها العبدُ

أفي دولة المنصور حاولت غدره

ألا إن أهل الغدر آباؤك الكردُ

محصلة كل ما سبق، تعني أن الكرد كانت لهم اليد الطولى في نشوء الدول وزوالها في هذه المنطقة من العالم، فما بالهم لا يتمتعون حتى الآن بدولتهم القومية ليحكموا أنفسهم بأنفسهم؟ وهذا سؤال طريف آخر.

ربما يكون الجواب هو أنهم فضلوا الوحدة الإسلامية على الاستقلال بالدولة القومية، ولم يؤمنوا بحكمة المتنبي في قوله:

وإنما الناس بالملوك وما

تفلح عرب ملوكها عجمُ

فيا ترى رئاسة جلال طالباني للدولة العراقية إقناع للنفس وإيمان جزئي بهذه الحكمة هذه المرة؟ أم أنها مجرد «خروج من المولد بلا حمص»، كما يقول العقيد معمر القذافي؟ سؤال آخر طريف.

[email protected]