حديث «مصالح» يا أم عمرو!

TT

ظهر الأربعاء الماضي جلست أمام جهاز التلفزيون لمتابعة آخر الأحداث السياسية عبر الفضائيات العربية، فتلاحقت أمامي المشاهد المؤلمة لاقتتال الإخوة في قطاع غزة والكارثة الانتحارية المتطاولة في شوارع المدن العراقية والمأزق العبثي البشع في لبنان.

ووسط الانقباض، وكبس الأزرار لتقليب القنوات، اهتديت إلى «واحة» صغيرة عندما باشرت إحدى القنوات نقلاً حياً لمراسم التسلم والتسليم في العاصمة الفرنسية باريس بين الرئيسين المودّع جاك شيراك والجديد نيكولا ساركوزي.

جميلة جداً تلك المراسم. وأجمل منها مبدأ الديمقراطية الصحيحة انطلاقاً من مفهوم سيادة الشعب الحر على ذاته، والحق الحصري العائد له في ضبط عملية تداول السلطة.

فالرئيس وفق الأنظمة الديمقراطية خادم للشعب لا زعيم متسلّط عليه، وهو في نهاية المطاف «موظف» فترة خدمته محدّدة.. تطول أو تقصر بقرار الشعب من دون ترهيب أو ترغيب أو تزوير.

وهكذا غادر شيراك قصر الإليزيه، الذي احتله على امتداد 12 سنة بموافقة الشعب ورضاه، ليستأنف حياته كمواطن فرنسي عادي له طبعاً الامتيازات الخاصة بأي رئيس متقاعد. وأقسم ساركوزي - المنتخب بـ 53 % فقط من الأصوات في الدورة الثانية - اليمين متعهداً بالتغيير ولكن من رحم الاستمرارية والمؤسسات.

ولكن، بما أن لكل متعة نهاية، انتهت المراسم وعدت أقلّب القنوات فإذا بي أمام مشهد مؤلم يجسّد قدراتنا العربية على تشويه الديمقراطية وإساءة استخدام شعاراتها وممارساتها إلى حد تفريغها من معناها.

لقد كانت جلسة «مبايعة» برلمانية لتجديد ولاية «رئيس مفدّى» ورث السلطة عن «رئيس خالد». وتتابعت الـ»نعم» .. واحدة بعد الأخرى مع كل نائب يأتي دوره لإعلان الولاء المطلق. بل أن منهم من ارتأى اختصار المراحل فهتف «نعم وألف نعم»! وما كادت المبايعات البرلمانية تنتهي حتى بشّرت الشاشة جمهور المشاهدين بمؤتمرات وندوات تنظمها وزارات ومؤسسات حكومية لتأكيد «الوفاء» للقائد، مع أن إلمامي البسيط بالسياسة علّمني أن المطلوب في الجمهوريات البرلمانية هو أن يكون القائد وفياً للشعب .. لا العكس!

هذا مشهد، كما أحسب، ما عاد يمثّل حتى في «جمهوريات الموز» السابقة بأميركا الوسطى.. ودول الكاكاو في إفريقيا. وممارسات من هذه المسطرة دفنت مع «بابا دوك» دوفالييه في هاييتي وفيليكس هوفويت بوانيي في ساحل العاج وهايستينغز باندا في مالاوي، غير أنها في عالمنا العربي حيث لا فضيلة تسمو على فضيلة «الوفاء».. ما زالت صامدة ولله الحمد.

مَن الملوم في هذا الوضع؟

المنطق يقول أن المسؤولية في النهاية مسؤولية المواطن. فهو الذي عليه أن يقرّر تقبّل هذه اللعبة أو رفضها. وهو الذي يقدّر ما إذا كان «التدجين» هو المصير المناسب أم لا. وهو الذي له أن يتأقلم أو لا يتأقلم مع طبيعة النظام الذي يعيش في ظله.

فإذا قرّر أن التفويض المطلق و«التقاعد» عن الممارسة السياسية هما أسلم الطرق لضمان الاستقرار .. لا بأس. ولكن في هذه الحالة تصبح الشكاوى أو الانتقادات «التنفيسية» المقوننة ضرباً من النفاق الضروري جداً لاستمرار الوضع الراهن. فأساساً، الديمقراطية لا تفرض فرضاً «من فوق» .. بل تنمو وتترعرع وتنضج «من تحت».

مع هذا، يجب الإقرار بأن هذا النوع من الأنظمة ليس أسوأ ما ابتلينا به. فقد بيّنت لنا الأيام أن لدى مجتمعاتنا الطائفية والعشائرية قدرة هائلة على اختزان ما تختزنه من مكوّنات الحروب الأهلية الرهيبة. وبالتالي، تظل أسوأ «دولة» (بمعنى السلطة) أفضل ألف مرة من «اللا دولة» .. التي هي الفوضى.

أمر آخر جدير بالبحث، هو الكلام عن أن منطقتنا العربية مهددة بـ»مشاريع هيمنة». وما نسمعه يومياً هو أننا أمام مشروعين اثنين هما: مشروع «الفوضى الخلاقة» الأميركي الهادف إلى تقسيم كيانات المنطقة تحت مسمى «الشرق الأوسط الجديد»، ومشروع «الهيمنة الإيرانية» المروّج له باسم الإسلام والتحرير والتصدي.

الشيء الأكيد أن هذين المشروعين موجودان. لكنني أعتقد – و أرجو ألا أكون مخطئاً – أن ثمة مجالاً واسعاً لوجود مشاريع أخرى، عربية واستقلالية وعقلانية ومتسامحة، تقوم على التفاهم المخلص على الأولويات الحقيقية لشعوبنا.. التي لا يريد أي من المشروعين السابقي الذكر التطرق إليها.

فأنا لا أتخيل أن المنطقة محكومة إما بتبنّي استراتيجية آيه الله علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد من جهة، أو مخططات «اليمين التوراتي» و«لوبيات» إسرائيل والسلاح والنفط في الولايات المتحدة. وموقفي هذا لا ينبع من رومانسية مثالية تحلم بعالم عربي حر يرفل بالعدالة الاجتماعية والرخاء والسلم الأهلي، بل من اقتناعي بأن الدول الكبرى سواء كانت «قوى عظمى» بحجم الولايات المتحدة أو «قوى إقليمية» بحجم إيران، أبعد ما تكون عن أخلاقيات «الجمعيات الخيرية».

ولذا اعتقد أنه آن الأوان لنا لكي نفهم، بعيداً عن العواطف الجياشة و«نظريات المؤامرة» التي قد تصح أو لا تصحّ، حقيقة علاقات الدول إحداها بالأخرى.

إنها علاقات مصالح، وأثمان مقبولة أو مرفوضة لترتيبات محلية هنا و«إقليمية» هناك. وفي حسابات الدول الكبرى التي تحكمها المؤسسات ـ أو الآيديولوجيات ـ لكل سياسة حساب، ولكل ظاهرة معادلة، ولكل موقف ثمن.

ألا نتذكر كيف تفجّرت فضيحة «إيران غيت» (إيران كونترا) التي تضمنت شراء إيران «الخمينية» أسلحة من «الشيطان الأكبر» أميركا لأن بعض مريدي الرئيس رونالد ريغان ارادوا تجاوز الكونغرس في حظره تمويل حرب إسقاط نظام الساندينيين اليساريين في نيكاراغوا؟

ألا نسمع اليوم، أن إسرائيل ضد فكرة تبديل النظام السوري الحالي، لأنه أولاً «ضعيف» ولا يشكل خطراً عليها، وثانياً لأنه «معروف ومطامحه معروفة»، وثالثاً لأنه «يشكل ضمانة ضد صعود التيارات الإسلامية والحركات الأصولية»؟

هاتان الحالتان أوردهما ليس بغرض الإدانة، بل لسَوق أمثلة على «الواقعية» السياسية بين الدول .. التي يجتهد الديماغوجيون والمنافقون والسذّج و«الخَرفون» من ساستنا تجاهلها وتغييبها.

ان تهييج الشارع ورفع شعارات «التخوين» و«النضال» الابتزازية أسهمت وتسهم في الصورة القاتمة التي تخيّم اليوم على المنطقة. وقد تكون هناك صفقات تعقد في هذه اللحظات على نار هادئة لقاء الثمن المناسب، بالذات، بين أطراف «لعبة» التخوين والفتنة القاتلة .. التي ما عادت نائمة.