الطريق إلى المحاكم العسكرية  

TT

لجأت مصر إلى القضاء العسكري أو «الدواء المر» للتعامل مع داء أكثر مرارة بعد أن تسلحت بأقصى درجات حسن النية والصبر والهدوء على ممارسات «الجماعة المحظورة» وجماعات العنف المسلحة الأخرى التي ظلت تصعد المواجهة وتعبث بالإصلاح السياسي والديمقراطي وتوظفه لمصالحها وأغراضها وإشاعة الفوضى والتمرد والعصيان، والعبث بسلطات الدولة ومحاولة اختراق مؤسساتها. لم يتركوا القضاة ولا الصحفيين ولا العمال ولا المحامين ولا سائر النقابات المهنية الأخرى، إلا وامتدت إليهم أنشطتهم التي ظهرت في صورة دولة داخل الدولة و العمل من خلال تنظيمات موازية.  

لم يقتنع الإخوان الذين تمت إحالتهم إلى القضاء العسكري مؤخراً بالنظام الذي ارتضاه المجتمع، بوحدته الوطنية وحقوق المواطنة التي لا تفرق بين مصري وآخر بسبب دين أو جنس، وسعوا لتقسيم المصريين إلى إخوان مسلمين ومصريين آخرين وأعطوا أنفسهم «حقاً إلهياً» في احتكار الشعائر الدينية لصالحهم وتوظيفها لأغراضهم السياسية  .

الإخوان هم الذين يتعجلون الصدام وراودهم إحساس كاذب بأن الدولة في حالة ضعف وانه آن الأوان للانقضاض عليها، فخرجوا من أوكارهم، وظهروا في المجتمع بشكل غير مسبوق يعلنون هويتهم الإخوانية ويجاهرون بتحدي القانون والنظام والدعوة إلى الفوضى والعصيان وقلب نظام الحكم. 

«المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين»، ولكن الإخوان أدمنوا أن يلدغوا من نفس الجحر مرتين وعشرا وعشرين، وعادوا لنفس الألاعيب القديمة التي جعلت كل الحكومات في مصر قبل الثورة وبعدها لا تثق فيهم وتستنفر قواها لمواجهة مخاطرهم، واستخدموا نفس التكتيك القديم المكون من ثلاثة أجنحة: الشيوخ الذين يتحدثون في السياسة والدين.. والمستثمرون الذين ينقضون على اقتصاد الدولة ومشروعاتها الحيوية.. ثم الجناح العسكري .. وخرج هذا الثالوث إلى النور بشكل سافر بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتجسدت المأساة بعد عرض الميلشيات العسكرية في جامعة الأزهر، هم الذين تعجلوا المواجهة وكشفوا عن مخططاتهم «العدوانية» تجاه الدولة والدستور والقانون، وسعوا إلى الصدام في توقيت حاسم وظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد. 

لم يكن في وسع حاكم أو مسؤول يريد أن يحمي وطنه وشعبه ويحرص على مستقبل أبنائه ويؤمنه من الخطر، إلا أن يلجأ إلى الدواء المر لمنع انتشار وباء أكثر مرارة وإنقاذ البلاد من براثن الفتن والصراعات.

 بدأ القضاء العسكري في مواجهة الإرهاب منذ سبتمبر عام 1992 عندما أحال رئيس الجمهورية قضية «العائدون من أفغانستان» إلى القضاء العسكري. وشمل قرار الاتهام 26 متهما صدرت أحكام بإعدام ثمانية منهم هم: محمد شوقي الإسلامبولي، رفاعي احمد طه، مصطفى حمزة، عثمان خالد إبراهيم، احمد مصطفى نواره، طلعت فؤاد قاسم، شريف حسن أحمد وطلعت ياسين همام.

استمرت المحاكمة 35 يوماً عقدت خلالها 12 جلسة وقد طعنت هيئة الدفاع عن المتهمين في قرار رئيس الجمهورية أمام القضاء الإداري، وأصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار طارق البشري حكماً بوقف قرار رئيس الجمهورية بإحالة المتهمين للقضاء العسكري.. إلا أن المحكمة الإدارية العليا ألغت هذا الحكم وأيدت حق الرئيس في إحالة بعض القضايا إلى المحاكم العسكرية واعتمدت في حكمها على فتوى من المحكمة الدستورية العليا أكدت هذا الحق المخول للرئيس. ويستند الرئيس على الصلاحيات التي تمنحها له المادة «216» من قانون الأحكام العسكرية، التي تعطيه الحق في إحالة المدنيين المتهمين بارتكاب أعمال العنف والإرهاب إلى القضاء العسكري، متى أعلنت حالة الطوارئ وتمت إحالتها بقرار من رئيس الجمهورية.

أطول قضية كانت محاولة اغتيال رئيس الوزراء المرحوم الدكتور عاطف صدقي، التي راحت ضحيتها الطفلة شيماء واستغرقت 54 يوماً على مدى 14 جلسة وصدرت أحكام بإعدام تسعة متهمين. 

وكانت سنة 1993 هي سنة المواجهة الشاملة مع عصابات الإرهاب المسلح، أطلق الإرهابيون الرصاصة الأولى، وأطلق القضاء العسكري الرصاصة الأخيرة.. وصدرت أحكام رادعة في عشر قضايا كبرى، أوقفت إلى حد كبير حمامات الدم، وكان كل المتهمين ينتمون لتنظيمات مسلحة، هي الجهاد والجماعة الإسلامية والشوقيون.

ففي فبراير 1993 أصدرت المحكمة العسكرية حكماً بإعدام حسن شحاتة بدران الذي قتل ضابط الشرطة النقيب علي خاطر، واستمرت المحاكمة عشرة أيام على مدى خمس جلسات، ووجد هذا الحكم ارتياحاً كبيراً لدى الرأي العام.  

وفي ابريل وضع القضاء العسكري حداً لعصابات قتل السائحين في شوارع الأقصر وأسوان التي استهدفت تخريب الاقتصاد القومي والإيحاء بوجود حرب أهلية في مصر ونفذ حكم الإعدام في سبعة إرهابيين من بين 49 متهماً وأحكام بالسجن على 23 وبراءة 19 .. وفي مايو وقعت محاولة اغتيال وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف وصدرت أحكام بإعدام ستة متهمين (بينهم متهم هارب) وسجن ثلاثة وبراءة خمسة متهمين.

دارت الماكينة مرة أخرى ولم يكن في استطاعة احد أن يوقفها، وخصوصاً أن جماعات العنف المسلح طورت حرب المواجهة ووضعت نصب أعينها كبار المسؤولين ورموز المجتمع.. وفي أكتوبر سنة 1994 وقعت محاولة اغتيال نجيب محفوظ (رقم 24 لسنة 94). ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق في مارس، ومحاولة اغتيال وزير الداخلية في يوليو.

 كانت المرة الأولى التي يذهب فيها الإخوان إلى المحاكم العسكرية عقب محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في حادث المنشية عام 1954، التي خطط لها هنداوي دوير، المحامي ومسؤول التنظيم السري للإخوان في إمبابة، ونفذها محمود عبد اللطيف، وكان المرشد العام في ذلك الوقت هو حسن الهضيبي. وأصدرت محكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية حسين الشافعي وأنور السادات حكماً بإعدام ستة من الإخوان، هنداوي وعبد اللطيف وعودة، بجانب إبراهيم الطيب ومحمود فرغلي وحسن الهضيبي. ونفذ الحكم فيهم جميعاً وخُفف عن حسن الهضيبي. 

وكانت المرة الثانية التي لجأت فيها الدولة إلى المحاكم العسكرية أو الدواء المر ضد الإخوان سنة 1965 عقب الكشف عن «مؤامرة» للإخوان لقلب نظام الحكم واختراق القوات المسلحة وأشرف على التحقيقات شمس بدران.

وشمس بدران صنع شهرته من الإخوان الذين اتهموه بتعذيبهم وأيضا في قضية انحراف رجال المشير بعد هزيمة 1967 بجانب صلاح نصر وعباس رضوان، وحوكم أمام محكمة عسكرية خاصة برئاسة حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة 40 سنة. ولكن السادات إبان توليه الحكم أفرج عنه وأعطاه جواز سفر دبلوماسيا وطلب منه أن يغادر البلاد ويبتعد عن الحياة العامة. 

أما الرئيس السادات فلم يلجأ للمحاكم العسكرية إلا قليلا، ولكنه لجأ لمحاكم خاصة. وبدأ عهده بمحكمة الثورة التي حاكمت مجموعة 15 مايو برئاسة حافظ بدوي وعضوية حسن التهامي وبدوي حمودة رئيس المحكمة العليا في ذلك الوقت. وقدم لها91 متهماً أشهرهم علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف وضياء الدين داوود وعبد المحسن أبو النور ووجيه أباظة. أما الفريق أول محمد فوزي فقد انفصل عن هذه المجموعة وقدم لمحكمة عسكرية باعتباره القائد العام للقوات المسلحة. وصدر منطوق الحكم على الخمسة الكبار بالإعدام وخففه الرئيس السادات إلى المؤبد، وهو نفس الشيء بالنسبة للفريق أول محمد فوزي. ولم يلجأ السادات إلى المحاكم العسكرية لأن جماعات العنف المسلحة لم تكن قد ظهرت على السطح بالشكل المخيف الذي أعقب اغتيال السادات في المنطقة. ولكن من الطرائف أن السادات أحال الشاعر احمد فؤاد نجم إلى محكمة عسكرية عندما كتب قصيدة تسخر منه، وأصدرت حكماً بحبسه لمدة سنة ونفذ الحكم.

وفي عهد الرئيس مبارك استبعدت الدولة تماماً خيار المحاكم العسكرية، حتى في حادث المنصة الشهير الذي اقتصر دور المحاكم العسكرية فيه على محاكمة المتهمين المنتمين للقوات المسلحة. وظلت المحاكم العادية تمارس دورها على مدى أكثر من 12 سنة .

ولكن كان عام 1992 هو بداية عودة المحاكم العسكرية التي فتحت رصاصات الإرهاب لها الطريق، واستخدم رئيس الجمهورية صلاحياته المخولة له بمقتضى الدستور والقانون لوقف مخطط الجماعات الإرهابية المسلحة لإشعال الحرب الأهلية في مصر. وكانت آخر القضايا هي إحالة 54 من تنظيم الإخوان أصحاب التمويل والمشروعات الاقتصادية بعد اتهامهم بغسيل الأموال في العمليات الإرهابية.

وأخيراً حسمت المحكمة الإدارية العليا الجدل، وأقرت حق الرئيس في إحالة القضية إلى القضاء العسكري.. وبدأت الدائرة تدور من جديد.

* رئيس مجلس إدارة مؤسسة «روزاليوسف» المصرية