لعل الله يأتي بالفرج وقد اشتد البأس

TT

أفقت هذا الصباح على حلم جميل، ولكني عندما تأملت فيه تحول إلى كابوس مزعج، حلم بدا لي العالم فيه على هيئة غير التي هو عليها، عالم يعيش بأكمله في حالة من الاستقرار التام. في كل بلاد العالم تجري انتخابات نزيهة تختار الشعوب على إثرها قيادتها السياسية وممثليها في البرلمان والمجالس البلدية، وكل مؤسسات المجتمع المدني تعمل في تناغم كامل وفي ضوء استراتيجية متكاملة مع المؤسسات الحكومية لتحقيق المشروع التنموي الشامل. حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي التي تدفع كل أبناء الإنسانية إلى تسخير جهودهم للتعمير والبناء والتنافس في دعم أسباب السلم العالمي والرفاه الاجتماعي. بلغة أخرى كل دول العالم تملك فرصا متكافئة للإنتاج وفرصة متكافئة للاستهلاك. وانعدمت الحدود أمام حركة البشر والسلع. كل بني البشر فوق هذه المعمورة يتمتعون بنفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.

عالم الخير المطلق كما يريده البعض أن يكون. ولكن سرعان ما انتابني بعض الغم حين تساءلت قائلا: ولكن مثل هذا يقتضي أن يكون العلم مشاعا بين الناس وأن تكون الشعوب قادرة على التحكم في مقدراتها وخيراتها وأن يكون الحكام أصحاب قرار مستقل وأن يكون المفكر حرا لا يخشى خوذة الشرطي ولا عمامة العالم. ومعنى ذلك أيضا أن يكون الناس جميعا قادرين على الإنتاج. وتساءلت هل من الممكن أن يكون العالم على هذه الحال في الواقع وليس في الأحلام؟ وإذا كان الواقع الذي نعيشه غير ذلك تماما فمعنى ذلك أن هناك استراتيجية واعية تعمل منذ زمن بعيد ولا زالت تخطط ليستمر العالم على هذه الحالة. وكلما تقدم التفكير صار الغم هما و صار الهم حزنا.

دعونا نتوقف عند الحالة العربية، ولا أظن الأمر مختلفا عن غيرها من دول الجنوب، لقد رددنا مع آخرين كثر أن التخلف على اختلافنا في مفهومه ثقافة، وأن التخلف حالة ملازمة للمتخلف، وأنه من الضروري أن نغير ثقافة أمتنا السياسية وقبلنا تجاوزا مقولة التدرج وقلنا لا بأس من أن يحكمنا الحزب الواحد إذا كان ذلك سيقودنا إلى التعددية السياسية، ولا بأس أن يحكمنا دعاة الحداثة فذلك سيساعدنا عل التخلص من التقاليد البالية، وسلمنا أمرنا لأحزاب الجمهورية على أمل أن نصل إلى دولة القانون. ولكن وعلى غير ما توقعنا اكتشفنا بعد قرن من الزمان يزيد أو ينقص، أن الأحزاب التي حكمتنا صارت دولا محتكرة لكل شيء وأن جمهورياتنا الناشئة التي ثارت على الملكية أصبحت أكثر من الملكية بشاعة، وأن الملكية التي كنا نظن أنها ستصبح ملكية دستورية ابتعدت عنها أكثر فأكثر، وأن الحداثيين الذين حكمونا عادوا بنا إلى حيث كنا بل أسوأ من ذلك. وفي مؤتمراتنا العديدة التي نعقدها ما زلنا نردد الأسئلة نفسها، لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ وكيف يمكن أن نتخلص من الاستبداد؟ ولو خرج رواد الإصلاح من قبورهم لأغمي عليهم لهول ما يسمعون، هؤلاء أبناؤنا ما زالوا واقفين حيث تركناهم. هل ما درجنا على تسميته بقيم الحداثة أمر معقد لا تقوى عليه عقولنا البسيطة ونحن أمة القراءة والكتابة، ولذلك لزم علينا أن نردد الأسطوانة نفسها عشرات السنين لعلنا نفقه منها شيئا؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير.

ليست شعوبنا بلهاء ولا عديمة الفهم، وليست الديمقراطية معقدة ولا عسيرة الهضم، ولكن كل ما في الأمر أن شرط استمرار الحضارة الغربية على الرغم مما توفرت عليه من قيم جميلة وسلوكيات راقية هو تخلف الآخرين الذين أريد لهم أن يستمروا في تخلفهم. قال مالك بن نبي رحمه الله وهو الخبير بالحضارة الغربية، انها حضارة قامت على النهب. بل هو أكثر من ذلك، نهب ونهب مبرمج لأنها قامت على فكرة البقاء للأقوى والذي يخطط ليكون هو الأقوى لا تهمه مصلحة بلده الآنية فقط ولكن تهمه مصلحة بلده بعد أجيال عدة. ولا يهمه أن يقال عنه إنه متنكر لمبادئه أو ما يعبر عنه البعض بسياسة الكيل بمكيالين.

ولو أعملنا النظر قليلا لما كان ينبغي أن يثير هذا الأمر كل هذه الدهشة وكل هذا الاستغراب. حينما يدافع الغرب الديمقراطي عن مصالحه لا يهمه أبدا أن يكون منافيا لمبادئ الحق والعدالة التي يدعيها ولا يرى فرقا بين تأييده لأنظمة الاستبداد وبين إيوائه لضحايا الاستبداد؛ فهو بالأولى يحفظ مصالحه وبالثانية يحفظ مبادئه، طالما أن ضحايا الاستبداد تحولوا إلى مجرد أفراد يعيشون على بعض من حسناته أو على الأقل أولئك الذين استطاعوا الوصول إلى الشمال.

ومهما كانت جمعيات حقوق الإنسان وفية لشعاراتها فانها لن تستطيع أن تتجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها السياسة. لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت ان شرط الحياة الديمقراطية التي تنعم بها الشعوب في الدول المتقدمة هي الديكتاتورية التي ترزح تحتها الشعوب في الدول المتخلفة. إن من الضروري في منطق القوي أن يظل الحريق مشتعلا بين الدولة في العالم الإسلامي وبين المجتمع أو على الأقل مع مكون من مكوناته، استراتيجية يراد منها الإبقاء على العالم الإسلامي في حالة استقالة حضارية كاملة، خارج دائرة الإنتاج والفعل المبني على النظر وليس على الانفعال الآني الأهوج. وفي كل مرة يتم إنشاء جماعات تحت مسميات عديدة وتلوينات ايديولوجية متعددة وأنظمة لا تملك إلا خبرة واحدة حازت فيها شهادات عالية، خبرة البطش بالقوى المعارضة التي لم يعد في قاموسها إلا كلمة لا. هكذا تحول حلمي الجميل إلى كابوس ثقيل. هل معنى ذلك أن الأمل في غد أفضل صار من المحال، لا أبدا، ولكن الدنيا تؤخذ غلابا، ومن ظن أن الآخر القوي سيأتي لتحريره واهم، فذلك أمر مخالف لطبيعة الأشياء. ولم تتأت إذاً عداوة الغرب للأمة الإسلامية من مظاهر تخلُّفها، إنما جاءت من استمرار وجود مَواطن حياة في جسم أمَّة رفضت أن تستسلم، وترفضُ أن تتشكَّل وفق القوالب التي أُعدِّت لها سلفاً. ذلك ما يجب أن يفهمه حكامنا ومثقفونا وشعوبنا. وقديما قال أبو حيَّان التَّوحيديُّ واعظاً ـ لعل البعض ممن يتصورون أن الكلم الطيب وحيد المنبع، يقولون متى كان التوحيدي واعظا؟ ـ قال:

«إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ يطلع الخوفَ من ثنية الأمن، ويسوقُ الأمنَ من ناحية الخوف، ويبعثُ النَّصرَ وقد وقعَ اليأسُ، ويأتي بالفرج وقد اشتدَّ البأس، وأفعالُ الله خفيَّةُ المطالع، جليَّةُ المواقع، مطويَّةُ المنافع، لأنَّها تسري بين الغيب الإلهي، والعين الإنسي، وكلُّ ذلك ليصحَّ التوكُّلُ عليه...».

* أستاذ بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس

[email protected]