مريم

TT

«ابنتك مصابة بالسرطان».. لا توجد كلمات أصعب ولا أعنف على الأذن من ذلك. وهذا تماما ما أدركته وأنا استمع للطبيب، وهو يشرح حالة ابنتي «مريم» الصحية، وهي ابنة السنتين. كلمات مؤلمة، دامية لها وقع الرصاص وأكثر. لحظات تتعلق فيها الحياة في مشهد «برزخي» غير عادي، وكأن الروح معلقة بين سماء الله عز وجل وأرض عباده. سماء الله برحمته وقدرته على الشفاء ورفع البلاء، وأرض عباده والعلماء منهم تحديدا، الذين وهبوا حياتهم للطب والعلم ومحاولة مساعدتهم. لحظات من الغضب وكثير من القلق، وأنهار من القلق وأسئلة لا تنتهي، وحوار مع الأطباء لمحاولة معرفة الأسباب, والإجابة لماذا؟ تعددت الشروحات والمحاولات للاجابة، ولكن تبقى الحقيقة أصعب. فجوة علمية هائلة بيننا وبين الغرب، وتظهر بقوة في العلوم، وفي الطب منها على وجه الخصوص، وتحديدا في أمراض السرطان ووسائل المعالجة والتعاطي معه. لا أعلم من أين يبدأ غضبي وعلى من أسلطه. هل يكون على السنوات الضائعة التي لم يكن الاهتمام بها موجودا للطب والصحة، والشأن العلمي، في مقابل الصرف على تفاهات المسائل وسباق تسلح أحمق في منطقة موعودة بالدم والموت؟ هل أصب غضبي على الإهمال البيئي الجسيم، والذي تقول بعض الدراسات انه يسبب الأورام الخبيثة، وفي مدينتي التي كنت أسكنها دمر الصرف الصحي وانتشرت الأمراض بشتى أنواعها، دون ان يحاسب المسؤول عن ذلك هل أسلط غضبي على من كان يدلي برأي مضلل يحذر من التعلم في «بلاد الكفرة»، وتعلم لغتهم، وأن أي علم غير العلم الشرعي هو علم لا ينفع، فتكون تلك الآراء بمثابة الضلال بعينه لشباب بحاجة أن يهتدي لما ينفع نفسه ومجتمعه؟ فها هي «مريم» تتحول الى إحصائية جديدة تضاف لضحايا هذا المرض الخبيث اللعين، ويبقى التعلق دائما بالله عز وجل، الملاذ الأول والأخير.

مواقف تتعطل فيها لغة الكلام وتتبعثر المفردات، ولكن تبقى هناك حقائق وأرقام ومعان وعبر, عمن يسعى لإعمار الأرض، وعمن يسعى لهدمها وشتان بين هذا وذاك.

في معاناة «مريم»، تتجسد صراعات فكرية على أرض الواقع، في معاناتها تظهر جليا مواقف من هم على حق ومن هم على باطل، من كان يسعى لإعمار الأرض بالحق، ومن سعى لتشتيت وتفريق من عليها. هناك حكم وهناك عبر في طريق علاج السرطان، وهي رحلة ستكون مليئة بمشاوير الصعود وطرقات الهبوط، ولكن حتما يجب أن تكون هذه الطريق معبدة بالإيمان، وظلها التقيد بعظمة الله وحكمته وعجائب قدرته.

هل لهذه الغفلة «العلمية» الطويلة التي عليها العرب من يقظة؟ ألن يكتب لنا الخروج من عباءة «ابن سينا» الى عباءة المعاصرين، أم سيكتب علينا أن نكون أسرى السلف حتى في الطب أيضا؟ المشوار طويل، ولكن بدأ، ولا أملك سوى أن أدعو لابنتي ولمن على حالها بالشفاء والطهور والأجر لمن صبر. ولكن تبقى أسئلتي بلا إجابة. الحمد لله رب العالمين، أختم هذه الكلمات بكلام الحق عز وجل، الذي قال عن مريم بنت عمران عليها السلام «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا»، أدعو الله أن يكون لابنتي نفس النصيب.