«أحاذر أن تقضي عليه العمائم!»

TT

بين دخان الحرائق وشبه الحرائق في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال، أطل علينا العقيد معمر القذافي قبل أيام على شاشة «الجزيرة» في حوار مع سامي حداد. العقيد الأخضر كرر أطروحاته حول التكتل الأفريقي الجديد، وانتهاء بالدين والقومية في تكوين التجمعات العالمية، وأنه من أجل ذلك ولَّى وجههُ قِبَلَ أفريقيا ووضَعَ خريطتها الخضراء على قلبه، لكن العقيد أبَى إلا أن يتحدث عن شؤون العرب، والشؤون العربية كلها: قضية فلسطين (هل بقي من القضية شيء بعد غزوة غزة الحماسية؟!).

وبصرف النظر عن انطباعي الذي خرجت به من أن سامي حداد كان مشغولا بغير ما كان العقيد مشغولا به، فقد كان «المذيع الأبيض» مهجوسا بإنطاق العقيد بتصريحات عدائية معتادة منه ضد السعودية، إلا أن قائد الجماهيرية لم يكن مهتما بذلك، بنفس حرص سامي حداد، بل بشرح نظرياته السياسية والاستراتيجية. ورغم أن حداد لم يقصِّر، وناور ونوَّع في الأسئلة، إلا أن العقيد كان في ملكوت آخر.

قال القذافي إنه ضد تدخل العرب الآخرين في قضية فلسطين، وأنه يرى أنه يجب ترك الاتفاق بين إسرائيل وفلسطين للفلسطينيين، وأنه إذا كان لدولة عربية أن تبرم اتفاقا مع إسرائيل فهذا شأنها هي، وانه لم يكن معارضا للسادات حينما وقع اتفاقية كامب ديفيد إلا لأن السادات تدخل في القضية الفلسطينية وقرر بالنيابة عنهم. ولو اقتصر السادات على الاتفاق من اجل المصالح المصرية فقط لما اختلف معه.. وأنه من أجل ذلك يعارض مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت.

في الحق أن القذافي في عدم ممانعته إبرام سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين قارب الصواب، وإن كان لم يقارب الرواية التاريخية الأمينة لما فعلته الجماهيرية من إفساد منظم لكل جهود السلام العربية، وعلى رأسها مشروع السادات، فهو بحسه الثوري، ومعه دول الصمود والتصدي، كانت جبهة تعطيل وإرهاب سياسي لكل من يريد المضي بطريق البناء والسلام وحل القضية الفلسطينية، غير أن هذا حديث الماضي، ولن نفيض فيه الآن، فلدينا ما يكفي من المصائب، ويهمنا ما يقال حاضرا وليس ما قيل ماضيا.

أردت من هذا المدخلِ القذافيِّ أن نطل على هذا المشهد القبيح الذي يتمدد من العراق إلى لبنان وفلسطين، ما الذي يجري؟!

هناك عدة أجوبة أو مداخل للتعرف على ما يجري.

اذا ما قربنا النظر والتصقنا بالمشهد في كل حلباته، فسنرى صراعا بين حماس وفتح في فلسطين على: مَنْ يمثل فسطين؟ ومَنْ يحكم؟ وفي العراق بين السنة والشيعة، بكتلهم وأحزابهم السياسية، نفس الشيء. وفي لبنان أيضا، وبهذا البلد الأخير، لو أردنا التوسع قليلا في الكلام، سنرى أن ما يجري هو صراع بين فريقين سياسيين؛ فريق مع المحور الإيراني ـ السوري، يضم من له أطروحة آيديولوجية ذات مضمون أصولي ملحمي مثل حزب الله، وتضم من هم تابعون، ترهيبا أو ترغيبا، للنظام السوري، ومن له مطامح شخصية عارمة مثل الجنرال عون. وهناك في الفريق الآخر، فريق 14 آذار، يمكن الحديث عمن هم حلفاء للسعودية أو لأمريكا أو أصدقاء للأردن، أو باختصار شديد، من هم ضد المحور الإيراني ـ السوري، ولكن الدماء الغزيرة التي سالت على المذبح السوري من رفيق الحريري مرورا بتويني وقصير والجميل وانتهاء بعيدو، لحمت هذا الفريق ووحدته بغريزة الخوف والبقاء، وهي غريزة تفعل الأفاعيل.

لكن إذا ما باعدنا النظر قليلا، فسنرى ما يجري في لبنان وغير لبنان حاليا، رغم كل أسبابه الداخلية الحقيقية ورغم كل تعقيداته، ليس إلا حلبة من حلبات الصراع المفتوح بين إيران، وتتبعها سوريا، من طرف والسعودية والأردن ومصر من طرف آخر، صحيح أن ايران وسوريا هما من تفجران وتؤلفان الجماعات، وتخربان الامن، وخصومهما لا يفعلون. صحيح أن هذا التخندق والتقابل يتلاقيان مع مصلحة أمريكا وسعيها لإخضاع النظام الأصولي الثوري في إيران، والبعثي القمعي في سوريا، ولكن هذا لا يلغي واقعية السعودية ومصر والأردن وحقيقة مخاوفها من هذا المحور السوري ـ الإيراني، رغم كل تطمينات وتخوينات الكتاب القوميين والإسلاميين.

والواقع يتحدث عن الهجوم الإيراني المسنود سورياً على المنطقة، وهنا ننتقل إلى الساحة الفلسطينية، فها هي ملفات العرب الكبرى: لبنان وفلسطين والعراق، تسرق من يد الدول العربية، التي تولتها تقليدياً، وتتحول شيئا فشيئا إلى إيران، فإيران هي اللاعب الرئيسي في العراق، وإيران هي البوابة الكبرى في لبنان، وإيران هي المعوّل عليها في ترويض حماس، والوكيل في هذا كله هو سوريا، باستثناء الساحة العراقية التي لا تحتاج فيها إيران إلى محلل شرعي، فهي تتزوج فيها بالمتعة الحلال مباشرة!

وإذا ما باعدنا النظر أكثر وأكثر، فستبدو لنا هذه الحرائق من بعيد، خيوط دخان نحيلة تصعد إلى مكان واحد؛ مكان يرتاح فيه الدخان ويتجمع من جديد، ليتكون على شكل غيوم سوداء تهطل قطراناً اسود لا ينبِتُ إلا الخرابَ.

أعني أن الجامع بين الحرائق في العراق ولبنان (مع بداية نشاط «القاعدة»، حاملة السلاح الأصولي السني في مقابل السلاح الأصولي الشيعي في يد حزب الله) وفلسطين حماس التي تتباهى بأنها تسعى لإقامة الخلافة الإسلامية وأنهم «الأيدي المتوضئة»، حسبما يمدحهم كاتب خليجي، الجامع بينها كلها، ومعهم إيران الخمينية طبعاً، هو انطلاق كل هؤلاء «الابطال» الحاليين، من رؤية دينية ثورية، لا ترى العالم كله إلا ساحة جاهزة للانقضاض عليها من اجل نشر الحق ودحض الباطل، جماعات لا تدخل على قضايا الناس من واقع دنيوي، فهي فوق وسخ الدنيا وطينها، لأنهم حزب الله والأيدي المتوضئة.

حماس، ترى في فتح، دعك من مجاملات مشعل، حركة لا تمتلك صفاء الرؤية ولا عمق الإيمان بالله ولا مشروعا إسلاميا، وعليه فهي لا ترى في فلسطين قضية إلا بكونها «وقفا إسلاميا» يجب تحريره «من أجل» إقامة الدولة الإسلامية النقية عليه، واستعادة الشرعية الإسلامية من رحم التاريخ.

إذن هو التاريخ، ذلك الذي يبحث عنه الجميع في الشرق الأوسط، ولا يريدون الحاضر، وهذا مفهوم، ولا المستقبل، وهذه كارثة!

التاريخ الذي يبحث عنه المتعصبون في إسرائيل أيضا، والتاريخ الذي يشتعل من جديد في العراق، فيفجر مرقد سامراء الشيعي، ليكون الرد بتفجير مرقد طلحة بن عبيد الله، وكأن معركة «الجمل» التي مضى عليها أكثر من 1400 سنة، ما زالت أحداثها تدور!

التاريخ الذي يرى القذافي انه يريد استعادته من خلال نموذج الدولة الفاطمية، تلك الدولة التي يرى فيها مثالا للنجاح العربي الحضاري، البعض رأى أن هذه أحد تجليات العقيد الكثيرة. والبعض الآخر رأى أنها ترتكز على شعور عميق لدى رفاق ثورة الفاتح في ليبيا منذ أن زار عبد السلام جلود إيران بعد قيام ثورة الخميني 1979 واحتفى بها. وقال للملالي هناك: «نحن في الجماهيرية متأثرون بالدولة الفاطمية، وإن لم نكن شيعة» (كما نشرته جريدة «الوطن» الكويتية في حينها بتاريخ 1 يونيو(حزيران) 1979).

ما الذي يجعل التاريخ مغويا ومهلكا لهذه المنطقة؟! ما الذي يجعله محيطا بنا من كل الجهات، وكل يريد تكراره على طريقته؟

الحديث السياسي التفصيلي لا يجيب عن السؤال: ماذا بنا؟!

فكل لديه القدرة على المناورة وإخفاء الأهداف الحقيقية، ولكنه الحديث الفكري ونقد التاريخ والتراث، هو ما يجيب على «خلود» الخراب لدى العرب.

نحن أمة مأسورة بتاريخها، وتاريخها «كله» مقدس، والاقتراب النقدي منه لغم، والنقد وظيفة معطلة، والبقاء للأوهام والأكاذيب، والإصلاح الديني الجريء محارب، ناهيك من الاجتماعي والسياسي، مع أن المجالين الأخيرين يتبعان للأول، كما أرى.

ماذا لو تكررت نفس هذه الآراء، التي نسمعها الآن من رموز الأصولية، وولدت نفس هذه القوى، وقيل الكلام ذاته حول الدين والمجتمع والسياسة، بعد خمسين سنة من الآن، ألن يكون ذلك دلالة على شيء واحد فقط، وهو أننا أجساد تمشي وهي ميتة؟!

لا تعجبوا من ذلك، فقبل عامين من الآن، كانت احتفالية في مصر بالذكرى المئوية الأولى للمجدد الإصلاحي والنقدي الكبير، الشيخ محمد عبده، والذي إذا ما رجعت إلى أفكاره ستجده ينتقد نفس ما هو سائد الآن من خرافة وتراث يؤخذ على علاته، لدرجة أنه تخلى عن السياسة وتفرغ لإصلاح التعليم في الأزهر، ولكنه منيَّ بالخيبة، وحاربه رجال الأزهر، ومعهم الخديوي عباس، فبلَعَ حسرته ونقمته على شيوخ الجمود والتكرار، وقال وهو على فراش الموت:

ولست أبالي أن يقال محمد / أبل أم اكتظت عليه المآتم

ولكن ديناً قد أردت صلاحه / أحاذر أن تقضي عليه «العمائم»

هذه العمائم التي خشيَّ منها الشيخ عبده، فقط لأنها حاربت الإصلاح الفكري والتربوي، ها هي تعود اليوم في العراق ولبنان وفلسطين والخليج.. تخرب ما لم يخربه أسلافهم.

ولا نملك إلا أن نحاذر كما حاذر الإمام قبل مائة عام..

[email protected]