«حماس».. مـن التحرير الكامل إلى «دوقيَّة» غـزة

TT

على غرار ما يجري بعد كل انقلاب عسكري فقد بادر رئيس الوزراء الفلسطيني المُقال إسماعيل هنية، بعد أن استتبت لحركة «حماس» الأمور وسيطرت على قطاع غزة وأنزلت صور ياسر عرفات (أبو عمار) وصور محمود عباس (أبو مازن) عن جدران مقرات ومؤسسات الحكومة وداستها بالأقدام وأطلقت الرصاص عليها، الى التأكيد على حفظ أمن الرعايا الأجانب والوعد بإطلاق سراح الصحافي البريطاني ألن جونستون والتأكيد أيضاً على احترام: «كل العلاقات الأخوية مع الدول العربية الشقيقة!!.

في عدد «الشرق الأوسط» يوم الخميس الرابع والعشرين من مايو (أيار) الماضي كتبت مقالاً عنوانه: الإحباط أوصل أوساطاً فتحاوية وفلسطينية الى التفكير بترك «دوقيِّة» غزة لـ«حماس» والانكفاء الى الضفة الغربية، وقد استغرب كثيرون أن أصل الى هذا الاستنتاج الذي اعتبروه خاطئاً وأني أروج لفكرة جنونية!!.

الآن ثبت باليقين القاطع أن تلك القراءة التي كانت قبل نحو شهر كامل كانت صحيحة ولم تكن مجرد أمنية «متحامل»!! و«حاقد»!! فالطلاق المتوقع بين قطاع غزة والضفة الغربية حصل، ولكن بعد انقلاب عسكري دموي وبعد جريمة أخلاقية وصلت الى حد استباحة الأشياء الخاصة لياسر عرفات، القائد الذي يعتبر الرمز التاريخي للقضية الفلسطينية، وإنزال صورته من على جدران مقرات ومؤسسات السلطة الوطنية ودوسها بالأقدام وإطلاق الرصاص عليها في هيئة تنفيذ الإعدام بحق رجل أعطى كل عمره لهذه القضية ودفع حياته من أجلها وبقي صامداً يرسم بأصابع يده اليمنى إشارة النصر حتى اللحظة الأخيرة.

غير صحيح، على الإطلاق، أن المشكلة بين «حماس» و«فتح» مشكلة أمنية فما جرى في غزة قبل نحو أسبوع يؤكد أن ما بين هاتين الحركتين هو صراع على السلطة وأن هذا الصراع الإلغائي هو الذي جعل حركة المقاومة الإسلامية ترفض الانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية رغم كل الإغراءات المجزية التي عرضها عليها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات خلال مفاوضات وحوارات «ماراثونية» مطولة تنقلت ما بين الكويت وعمان وصنعاء وتونس والقاهرة والجزائر منذ نهايات ثمانينات القرن الماضي وعلى مدى أكثر من نحو عقدين من الزمن.

لقد ساد انطباع في البداية، قبل فوز «حماس» بآخر انتخابات تشريعية وقبل تشكيل إسماعيل هنية لحكومتيه المتتاليتين أن الخلاف مع «فتح» ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية ومع (أبو عمار) ثم مع (أبو مازن) هو خلاف عقائدي يتعلق بثوابت القضية الفلسطينية وأن حركة المقاومة الإسلامية التي دخلت متأخرة نحو ربع قرن من الأعوام ساحة «الجهاد» والثورة لا تقبل بأقل من التحرير الكامل ومن البحر الى النهر، ولذلك فإنها ترفض أي حل لا يتضمن هذه الثوابت وبقيت تتمسك بلاءات الخرطوم الشهيرة: «لا صلح لا اعتراف لا مفاوضات»!!

لكنها ما أن قررت خوض الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي مهدت لها بتحويل «انتفاضة الأقصى» من انتفاضة شعبية الى مواجهة عسكرية وبرفع وتيرة العمليات الانتحارية وعمليات إطلاق صواريخ القسام، الكرتونية والدخانية، حتى بدأت، أي حركة «حماس»، تطلق إشارات استعدادها لمساومة تاريخية على أساس قرارات الأمم المتحدة وقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت عام 1967، جنباً الى جنب مع الدولة الإسرائيلية التي غدت حقيقة قائمة في هذه المنطقة لا يمكن إنكارها!!

أولاً: أطلقت حركة «حماس» كـ«بالون» اختبار ما سمي وثيقة الدكتور أحمد يوسف، الذي هو المستشار السياسي لرئيس الوزراء في ذلك الحين إسماعيل هنية، التي اقتربت من اتفاقيات أوسلو حتى حدود التطابق ولكن مع بعض الشروط التجميلية التي تقتضيها لعبة الشدِّ والجذب بالنسبة لمفاوضات على كل هذا المستوى من الخطورة والمسؤولية.

ثانياً: وقبل هذا كانت حركة «حماس» قد أثبتت للإسرائيليين وللأميركيين وللأوروبيين والعرب وكل من يهمه الأمر أنها عندما تقول تفعل، وأنها عندما تلتزم بهدنة فإنها لا تخل بما تلتزم به ولذلك وبعد تجربة «المصداقية» هذه بادرت الى عرض هدنة لمدة عشرة أعوام تتخللها مفاوضات مع إسرائيل بهدف إقامة الدولة المستقلة التي تعهد الرئيس الأميركي جورج بوش، قبل خمسة أعوام، بأنها ستقوم جنباً الى جنب مع الدولة الإسرائيلية خلال ما تبقى من ولايته الثانية كرئيس للولايات المتحدة الأميركية.

إن هذا هو سبب رفض حركة «حماس» الانخراط في منظمة التحرير، فهي ومنذ البداية كانت تخطط وتعمل من أجل التخلص من هذه المنظمة إن لم تكن هناك إمكانية لمصادرتها وانتزاعها من يد حركة «فتح» والفصائل المتحالفة الأخرى، وهي ومنذ البداية كانت تخطط وتعمل من أجل أن تكون هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وأن يكون كل ما قبلها جاهلي وأن تكون بداية تاريخ نضال هذا الشعب تبدأ بانطلاقتها في عام 1987 ولهذا فإنها سمَّت جناحها العسكري: «كتائب القسام ».. وعز الدين القسام هو ابن بلدة جبلة، على الشاطئ السوري الى الشمال من مدينة طرطوس التاريخية، الذي قاد أول ثورة فلسطينية ضد الانتداب البريطاني على فلسطين وقد استشهد في عام 1936 ودفن في بلدة يعبد في منطقة جنين.

وحتى عندما خاضت هذه الحركة آخر انتخابات تشريعية وفازت بها وشكلت على أساس هذا الفوز حكومتها الأولى برئاسة إسماعيل هنية ثم حكومتها الثانية التي سميت حكومة الوحدة الوطنية فإنها بقيت لا تعترف بأن منظمة التحرير ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وبقيت ترفض كل الالتزامات التي التزمت بها هذه المنظمة ومن ضمنها اتفاقيات أوسلو وكل الاتفاقيات الفلسطينية ـ الإسرائيلية اللاحقة.

ما كان يجب ان يقبل محمود عباس (أبو مازن) باعتباره رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية بأن تشارك حركة «حماس» في آخر انتخابات تشريعية وأن تشكل الحكومة الأولى ثم الحكومة الثانية، حكومة الوحدة الوطنية، قبل اعترافها الصريح بأن هذه المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وأنها تلتزم بكل التزاماتها وخاصة المتعلقة بعملية السلام وبخاصة اتفاقيات أوسلو التي أقيمت على أساسها السلطة الوطنية ومجلسها التشريعي وحكوماتها المتعاقبة التي بلغ عددها حتى الآن بعد حكومة الطوارئ الأخيرة اثنا عشر حكومة.

لو أن «أبو مازن» اتخذ مثل هذا القرار التاريخي لما كانت كل هذه التعقيدات والمآزق وآخرها كارثة حرب غزة الأخيرة، إذ كيف من الممكن ان تكون حركة فلسطينية شريكاً في عملية سياسية غطاؤها منظمة التحرير وهي لا تعترف بهذه المنظمة التي تعترف بها الدول العربية كلها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني والتي يعترف بها العالم كله.

لم تستطع حركة «حماس» إحلال نفسها محل منظمة التحرير بالوسائل الشرعية والسلمية فلجأت الى هذا الانقلاب العسكري الأخير لتفرض نفسها فرضاً على الفلسطينيين وعلى العرب كلهم وعلى العالم بأسره، ولو في قطاع غزة وإقامة «دوقية» صغيرة في هذا القطاع وحده، وهذا هو ما حصل وما سيتبلور بصورته النهائية في الأيام القليلة المقبلة وقد يصبح أمراً واقعاً وحقيقة قائمة.

عندما قامت حركة «حماس» بانقلابها العسكري فإنها كانت تعرف بيقين قاطع أن قطاع غزة سينفصل نهائياً عن الضفة الغربية وأنه سيتحول الى «دوقية» مستقلة عن السلطة الوطنية وأن الإسرائيليين سيرغون ويزبدون ولكنهم بالتالي سيوافقون بسعادة غامرة على أمر كانوا ينتظرونه لإثبات مصداقية ادعاءاتهم القائلة بأنهم لا يجدون الطرف الفلسطيني الذي يفاوضونه وأنه ليست هناك إمكانية لمفاوضات جدية مادام أن الفلسطينيين منقسمون بين «الدوقية» الغزية وسلطة محمود عباس وسلام فياض في الضفة الغربية.

ستحاول حركة «حماس» التشويش على «السلطة» وزعزعة الأمن في الضفة الغربية وستحاول ضبط الأمور في «دوقيتها» لتثبت أنها الأجدر من «فتح» ومن منظمة التحرير في أن تكون الشريك المقبول في المساومة التاريخية، لكن إن لم يحصل هذا وإن لم تستطع أن ترث »الجمل بما حمل» فإنها ستستعين بـ«المال الحلال»، الذي أوصل حزب الله الى أن يصبح دولة داخل الدولة، لتقيم «دوقية» إسلامية جميلة لا تتردد في تحطيم حتى تمثال الجندي المجهول بحجة أنه صنم جاهلي اقتداء بتحطيم دولة «طالبان» للتماثيل البوذية في أفغانستان.