مشرف «يتحصن» بالعسكر ليبقى رئيساً

TT

هل إن باكستان أم رئيسها برويز مشرف على مفترق طرق؟ فالانتخابات النيابية والرئاسية اقتربت، كما اقترب تقاعد جنرالين كبيرين (أربع نجوم) رئيس هيئة رؤساء الأركان، ونائب رئيس الأركان، لذلك انكب الرئيس مشرف على ترتيب الساحة العسكرية تمهيداً لإعادة انتخابه، فقد أصدر قراراً بتغيير قادة الألوية العسكرية في بيشاور وكويتا وبهاوالبور، كما رقى عدة مئات من الضباط في أكبر تعديل عسكري غير متوقع، سيليه التعديل العسكري المتوقع في شهر تشرين الأول (اكتوبر) بعد تقاعد الجنرالين الكبيرين.

التعديل الأخير لم يكن التعديل الأول هذا العام، ففي السابع من آذار (مارس) أي قبل يومين من تعليقه عمل رئيس المحكمة العليا السابق افتخار محمد تشودري الذي أدى الى أزمة سياسية كبرى في البلاد، أجرى مشرف تعديلات في القيادات العسكرية، لكن التعديل الأخير يكشف عن شعوره بالحاجة الى السيطرة على المؤسسة العسكرية (سلاحه الأساسي) ويشير الى مشاكله السياسية الكثيرة المتراكمة وآخرها قرار المحكمة العليا بتعليق الرخصة القانونية لمحامي الحكومة تشودري اختر علي ممثل الرئيس مشرف.

وكان الانهيار السياسي لقرارات مشرف بدأ في التاسع من آذار (مارس) إثر تعليقه ومن ثم طرده رئيس المحكمة العليا تشودري، ومحاولة منعه من زيارة مدينة كراتشي في 12 أيار (مايو) ومحاولته في الرابع من حزيران (يونيو) تحديد حرية الصحافة.

ثم إن حليفه السياسي الرئيس «حزب الرابطة الاسلامية» بدأ يشعر بثقل الضغوط وتتخوف قيادته على حياتها السياسية، ولهذا يريد الحزب أن يضع مسافة بينه وبين مشرف. وبينما يحاول مشرف التوصل الى تفاهم مع أكبر أحزاب المعارضة، «حزب الشعب الباكستاني»، قال زعيم حزب «الرابطة الإسلامية» في 27 الشهر الماضي، إن حزبه لن يتعاون مع «حزب الشعب» بسبب الفروقات الآيديولوجية. وكان أمين عام «حزب الرابطة الاسلامية»، سيد مشاهد حسين، انتقد الحكومة لمحاولتها منع رئيس المحكمة العليا السابق من زيارة كاراتشي، ذلك القرار الذي تحداه تشودري فأدت المظاهرات الى سقوط 40 قتيلاً والى تقييد حرية الصحافة. (عاد مشرف في ما بعد عن القرار).

منذ أزمة تشودري الذي يتخوف منه مشرف لأنه يمثل بديلاً للحكم العسكري يقوم على احترام استقلالية القضاء والعودة الى الحكم المدني، ومشرف يدرس عدة خطط لتأكيد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية، ومن أبرزها قراره الدعوة لانتخابات نيابية قبل الانتخابات الرئاسية لأنها توفر له المزيد من الوقت لتسوية الأوضاع المتأزمة، مع العلم أن دوره المزدوج، الذي يتمسك به، كقائد عسكري ورئيس قد يعقد الأمور اكثر ويجبره على الخروج النهائي من المسرح السياسي.

مع تململ حليفه الأساسي «حزب الرابطة الإسلامية»، يشعر مشرف بأن الرابطة قد لا تساعده على إعادة انتخابه رئيساً من اجل حماية حظوظها في الانتخابات النيابية. وكذلك الحال مع حليفه الآخر «حركة متحدة قومي» التي تعرضت لانتقادات من أحزاب كثيرة منها «حزب الرابطة الاسلامي» لدورها في المظاهرات الدموية التي جرت في كراتشي في 12 ايار (مايو)، وتبذل الحركة جهوداً كبيرة لتجنب الهزيمة في الانتخابات النيابية المقبلة.

ثم إن المفاوضات التي يجريها مشرف مع رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو لم تؤد بعد الى نتيجة، وكانت بوتو دعت اللجنة المركزية لـ«حزب الشعب» الى اجتماع مهم يُعقد في لندن هذا الأسبوع لاتخاذ قرار يتعلق باستراتيجية «حزب الشعب» في الفترة المقبلة. وهناك مؤتمر لكل الأحزاب دعا اليه حزب رئيس الوزراء السابق نواز شريف سيعقد هو الآخر في لندن الأسبوع المقبل وقد يكون حاسماً في اتخاذ موقف معارض موحد في الانتخابات المقبلة، قد يؤدي الى هزيمة مشرف.

بعد هذه الاجتماعات، يأتي دور مشرف الذي سيقرر بشكل حتمي في منتصف هذا الشهر ما إذا كان سيحل البرلمان الرئيسي وبرلمانات المقاطعات والدعوة الى انتخابات جديدة، أو يتجه مباشرة الى انتخابات رئاسية لم تعد نتائجها مضمونة مع محاولة حلفائه السياسيين وضع مسافة بينهم وبينه. ولأن كل الاستنتاجات تميل الى أن مشرف فقد الأمل في احتمال ان يفوز بالانتخابات الرئاسية التي كان ينوي الدعوة اليها في نهاية شهر ايلول (سبتمبر) أو تشرين الأول (أكتوبر)، فمن المتوقع ان يعلن في منتصف هذا الشهر عن حل البرلمانات والدعوة الى انتخابات نيابية لباكستان والمقاطعات تجري في ظرف تسعين يوماً، أي في وقت ما من شهر تشرين الأول (أكتوبر).

هذا سيسمح له بالإشراف على الانتخابات من موقعه وصلاحياته ونفوذه كرئيس. وفي ظل الدستور الحالي يستطيع مشرف ان يحافظ على منصب الرئيس والقائد العسكري حتى نهاية هذا العام الأمر الذي يسمح له بترقية وإقالة الكثير من الضباط حتى شهر تشرين الأول (أكتوبر)، وهذا ما بدأ يفعله، وفي حال حل المجالس البرلمانية، فإن بإمكانه البقاء رئيساً الى ما بعد إجراء الانتخابات النيابية.

إن تأجيل الانتخابات الرئاسية الى ما بعد الانتخابات النيابية، يوفر لمشرف الوقت اللازم للتوصل الى صفقة مع «حزب الشعب الباكستاني»، كما يمنحه الوقت لمحاولة تقسيم التحالف الإسلامي «متحدة مجلس الامل»، وهو تكتل نافذ يضم ستة أحزاب اسلامية، ومحاولة فصل الفريق الكبير والمؤثر والأكثر براغماتية «جمعية علماء الاسلام ـ فضل الرحمن»، التي يقودها مولانا فضل الرحمن عن الجمعية الأكثر راديكالية «جمعيتي إسلامي».

ويراهن مشرف على انه بدعوته الى اجراء انتخابات عامة يدفع معارضيه الى التوصل معه الى تفاهم ما. وهو يفكر بالسماح لبوتو بالعودة والمشاركة في الانتخابات وأن يضمن لها ولـ«جمعية علماء الإسلام ـ فضل الرحمن» بتحقيق فوز في الانتخابات لا سيما في المقاطعات مثل بلوشستان والمقاطعات الحدودية بالنسبة لـ«جمعية علماء الاسلام ـ فضل الرحمن»، وكذلك في الانتخابات المركزية مقابل وعد منهما بتأييد إعادة انتخابه.

لكن هناك عقبة رئيسية ستظل تؤثر على مجرى التفاهم بين مشرف والأحزاب التي يحاول مغازلتها. إذ لا يستطيع «حزب الشعب» أو «جمعية علماء الإسلام ـ فضل الرحمن» تجاوز مسألة أنه رئيس يرتدي البذلة العسكرية! ثم إن أياً من الأحزاب لا يثق بأن مشرف سيصدق بوعوده في ما يتعلق بنتائج الانتخابات العامة.

من ناحيته، لا يستطيع مشرف أن يثق بأن سماحه بإجراء انتخابات حرة ونزيهة سيؤدي الى توسيع قاعدته في البرلمان وبأن يسمح لـ«حزب الشعب» بالانضمام الى «حزب الرابطة الإسلامية» وتشكيل حكومة تحالف وطني، ثم انه لا يمكن أن يتأكد من أن مناوئيه لن يعودوا عن وعودهم في المساعدة على إعادة انتخابه رئيساً بمجرد مساعدته لهم على الفوز في الانتخابات النيابية.

إن مشرف وقع في فخ نظام معقد مدني ـ عسكري أوجده بنفسه، وقد يكون ساعده لسنوات منذ انقلابه على نواز شريف عام 1999 حتى الآن، إلا أن هذا النظام بدأ يتفكك قبل الانتخابات، ويستطيع مشرف أن يشتري بعض الوقت، لكن في النهاية قد يضطر الى التنازل عن بعض صلاحياته على الأقل، إذا أراد أن يبقى رئيساً.

تأتي هذه الأزمة السياسية، وباكستان تواجه تحركات لطالبان في العديد من مقاطعاتها، ثم إنها تحولت الى مسرح تلتقي وتتنافس فيه الصين والولايات المتحدة وقوى تمثل الكثير من الإسلاميين، ثم إن التسهيلات التي أعطاها مشرف لواشنطن في الحرب على الإرهاب، جعلت من نظامه هدفاً للإسلاميين، كما أن واشنطن لم تعد قادرة على تحمل مشرف وهي قلقة من علاقات إسلام آباد وبكين، حيث أن الصين بدأت في تطوير مرفأ غوادار في بلوشستان.

وهناك أيضاً العامل الهندي الذي عاد يدق أبواب العالم ويؤثر على باكستان. وإذا كانت الحرب الباردة ساعدت اقتصاد باكستان، والدعم الذي تلقته في تلك الفترة من الولايات المتحدة والصين دفعها الى الاعتقاد ولو خطأ، بأنها مساوية للهند التي تبلغ مساحتها ثمانية أضعاف مساحة باكستان، وجيشها اكبر بأربعة أضعاف من جيش باكستان، فإنه منذ عام 1988، وبعدما قامت الهند بتجاربها النووية، عمدت الى الكشف عن حمايتها لمصالحها الوطنية بطريقة أكثر مباشرة. ثم إن اقتصادها ينمو سنوياً بطريقة مثيرة، وعمدت واشنطن عبر الاتفاق الأميركي ـ الهندي المتعلق بالنووي الهندي المدني، وبكين عبر التبادل التجاري الهندي ـ الصيني المتسع، الى الإشارة عن رغبتهما في علاقة وثيقة مع نيودلهي، لذلك فإن قدرة باكستان في مجالات كثيرة تتقلص. وإذا قبلت باكستان بأنها لم تعد جيوسياسياً مساوية للهند ووافقت على وضع إقليمي ثانوي، فإن أهمية المؤسسة العسكرية قد تضعف.

ولأن هذا غير وارد الآن، حتى ان أحزاب المعارضة الباكستانية لا تقبل بدور ثانوي لباكستان يضعف أهم مؤسساتها، كون هذا الضعف قد يولد فراغاً تتنافس فيه المجموعات المختلفة عرقياً وطائفياً من البنجابيين والسند والبلوش والبشتون، والمهاجرين والبنغاليين. وخوفاً من أن يشعر العسكر بأنه للمحافظة على وضعهم، قد يلجأون لافتعال حروب مع الدول المجاورة وبالذات مع الهند، لأن أفغانستان «تحميها» قوات الأطلسي، يمكن فهم ما أقدم عليه مشرف من تثبيت لوضعه الآن، داخل المؤسسة العسكرية، عبر إجرائه تعديلات وترقيته ضباطاً، بدل الانتظار حتى شهر تشرين الأول (أكتوبر). إنه يحتاج الى أقصى ضمانات من العسكريين لمعرفة أي خطة يعتمدها في وقت يزداد فيه اللااستقرار السياسي محلياً، وتزداد المنافسة الإقليمية، اضافة الى الغموض الذي يخيم على ما هو آت...