الوضع الفلسطيني: بين «الوصاية» والقـوات الدولية!

TT

كان من الأفضل لو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بدل ان يطلب قوات دولية، لضبط الفلتان الأمني في الضفة الغربية وقطاع غزة، أن يطلب وصاية الأمم المتحدة على هذا الجزء من فلسطين التاريخية، وذلك ليصبح بالإمكان إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة بعد أن وصلت الأمور الى ما وصلت إليه وأيضاً لالزام إسرائيل باستحقاق إقامة دولة فلسطينية مستقلة على كل الأراضي التي احتلتها في حرب عام 1967 ومن بينها القدس الشرقية التي كانت، قبل هذه الحرب، تعتبر العاصمة الثانية للمملكة الأردنية الهاشمية.

لم تعد هناك إمكانية بعد الانقلاب العسكري الأخير في غزة، الذي خلط الأوراق وقلب الأمور رأساً على عقب، وللحديث عن هدف الدولة المستقلة المنشودة بالطريقة السابقة فقد أعطى هذا الانقلاب مصداقية لحجج إسرائيل القائلة بعدم وجود الطرف الفلسطيني الذي من الممكن مفاوضته على الحلول المقترحة لأزمة الشرق الأوسط وعلى التصورات التي يجري الحديث عنها بالنسبة لإقامة هذه الدولة المستقلة.

ولذلك ولإلزام إسرائيل بهذا الاستحقاق ولوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، لإيجاد حل لنـزاع هو أطول نزاع عرفه التاريخ المعاصر، فإن المفترض أن تتخذ خطوة أبعد من خطوة مجرد طلب قوات دولية فالقوات الدولية ضرورية لمعالجة مستجدات ما بعد انقلاب غزة أما استحقاق الدولة الفلسطينية، فإنه يحتاج الى استدراج الأمم المتحدة الى هذه الدائرة لوضع الإسرائيليين والأميركيين وجهاً لوجه أمام العالم كله ولوضع ما يقولونه من كلام معسول على محك المصداقية.

إن من غير المتوقع أن يذهب محمود عباس، الذي تكبل يديه معادلات فلسطينية وعربية كثيرة، الى تجاوز خطوة المطالبة بقوات دولية واتخاذ خطوة أبعد وهي خطوة المطالبة بوصاية الأمم المتحدة على الضفة الغربية وقطاع غزة وبحدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 ولذلك فإن أقل ما يمكن أن يفعله العرب والأميركيون والأوروبيون هو الضغط على إسرائيل لإلزامها بالاستجابة الى المطلب الأول الذي هو مطلب القوات الدولية الآنف الذكر، لأنه إذا كان هناك رفض فعلي لهذه الخطوة فهو رفض الدولة العبرية.

لأن إسرائيل، رغم المرونة التي تبديها بالنسبة لموضوع الدولة المستقلة وفقاً لتصورات الرئيس جورج بوش والمواصفات الأميركية، لا تنظر الى الفلسطينيين وبخاصة في الضفة الغربية، إلا كأقلية قومية ودينية تقيم على أرض إسرائيلية فإنها لا يمكن ان تقبل بقوات دولية ولا يمكن ان توافق على وصاية الأمم المتحدة على هذه الأراضي اللهم إلا إذا أُجبرت إجباراً وهذا يقتضي حالة فلسطينية غير هذه الحالة المزرية ووضعاً عربياً غير هذا الوضع العربي البائس وموقفاً أميركياً غير هذا الموقف المائع حيث الأقوال تبدو جميلة ومعقولة، بينما الأفعال بشعة وسيئة ومرفوضة.

لا عيب في أن يلجأ أي شعب من الشعوب المكافحة في لحظة انسداد أفق واهتزاز للمعادلات على غرار ما حصل بالنسبة للفلسطينيين بعد انقلاب غزة، الذي أقل ما يمكن أن يقال فيه أنه جاء كأكبر إساءة للقضية الفلسطينية بأيدٍ فلسطينية، الى الأمم المتحدة وطَلَبِ تدخلها وحمايتها فالأمم المتحدة ليست دولة استعمارية وتوسعية وقواتها التي استنجد بها محمود عباس تتشكل من دول بغالبيتها محايدة ومن بينها دول عربية وإسلامية مناصرة للشعب الفلسطيني ولنضاله ولقضيته.

هناك قوات دولية في هضبة الجولان السورية المحتلة، للفصل بين السوريين والإسرائيليين ومراقبة خطوط وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهناك قوات دولية في الجنوب اللبناني لم يعترض على وجودها ومهمتها حتى أصدقاء حماس وأصدقاء دمشق وأصدقاء كل الذين تصدوا لدعوة (أبو مازن) للاستعانة بمثل هذه القوات.. وهناك أيضاً قوات متعددة الجنسيات في سيناء وهذا لا يعيب لا السوريين ولا اللبنانيين ولا المصريين، ولا أي دولة في العالم كله أقْدمت على مثل هذه الخطوة لأي سبب من الأسباب.

إنه أمر طبيعي ومفهوم أن ترفض حماس القوات الدولية وأن تَعِدَ بأن كتائب «عز الدين القسام» ستكون في انتظارها فهي أقدمت على الانقلاب الدموي الأخير، الذي أقدمت عليه تحت وطأة الجوع الشديد الى السلطة واستجابة للمعادلة الإقليمية المعروفة، وهي تعرف أن مجيء قوات دولية الى غزة سيفقدها نتيجة ما خططت له لسنوات طويلة وسيحرمها من الاستمتاع بنتائج انتصار قد لا يتكرر على الإطلاق لا في عامٍ ولا في عامين ولا في مائة عام.

وأيضاً فإنه أمر طبيعي ومفهوم أن تتخذ حركة الجهاد الإسلامي الموقف الذي اتخذته حركة حماس، فهذا التنظيم لم يقبل بالمساومة التاريخية ولم يعترف بأن إسرائيل غدت أمراً واقعاً ولم يتراجع عن هدف التحرير من البحر الى النهر، ويقبل بدولة على ما احتل من الأراضي الفلسطينية في حرب يونيو عام 1967 كما فعلت حركة المقاومة الإسلامية .

إن كل هذا طبيعي ومعروف لكن غير الطبيعي وغير المعروف هو أن يعلن مسؤول في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من دمشق الموقف نفسه الذي اتخذته حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي وهو أن تشجع دولة، لا تجد عيباً ولا مساً بوطنيتها في أن ترابط قوات دولية على أراضيها، الفلسطينيين ومنهم بعض قادة حركة فتح، الذين حادوا عن مسيرة حركتهم، على رفض ما ترفضه إسرائيل وعلى مقاومة خطوة إن هي تمت، وهذا إن لم يكن مستحيلاً فإنه في غاية الصعوبة، فإنها ستكون مكملة لوصول ياسر عرفات الى منصة الأمم المتحدة في عام 1974.

ليس سهلاً ان تقبل إسرائيل لا بوصاية دولية على الضفة الغربية وقطاع غزة ولا بقوات دولية فيهما فالقبول بخطوة كهذه الخطوة يعني أول ما يعني النهاية العملية والفعلية لادعاء الإسرائيليين بأن الفلسطينيين مجرد أقلية قومية فوق أرض هي ليست أرضهم وهو يعني أيضاً وضع حجر الأساس لإقامة الدولة المستقلة الفعلية المنشودة ويعني تحميل المجتمع الدولي مسؤولية هذا الاستحقاق الذي ساعد الحكومة الإسرائيلية على التهرب منه هذا الانقلاب الأرعن، إن ليس المشبوه، الذي قامت به حماس وفَصَلَتْ بموجبه غزة عن الضفة وألغت الترابط المعنوي والسياسي بين جزئي الوطن الفلسطيني في أصعب مرحلة تمر بها القضية الفلسطينية.

لكن هذا يجب ألاَّ يدفع محمود عباس الى التراجع عن مطلب القوات الدولية فهو يعرف أن الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 احتاج الى سنوات طويلة من العمل المتواصل المضني ويومها لم تكن هناك لا حركة حماس ولا حركة الجهاد الإسلامي، ولم يكن هناك مسؤول فعلي واحد في حركة فتح يجرؤ على التغريد خارج السرب الفتحاوي وكانت سوريا في ظل قيادة «براغماتية» تلعب الأوراق بطريقة غير الطريقة التي تلعبها بها القيادة الحالية.

لن يستطيع (أبو مازن) إعادة الأمور الى ما كانت عليه قبل الانقلاب الأخير، إذا لم تتم الاستعانة بقوات دولية تفرض إرادة المجتمع الدولي على الجميع، أي «دوقيِّة» حركة حماس في غزة وإسرائيل وبعض شراذم حركة فتح وترهلات السلطة الوطنية، ولهذا فإنه على الرئيس الفلسطيني ألاَّ يصاب بالإحباط وعليه أن يتابع الخطوة التي أقدم عليها بخطوات جديدة أهمها العمل الجاد على الجبهة العربية فهناك دول عربية فاعلة ومؤثرة ربما تكون مقتنعة بهذه الخطوة لكنها تحت وطأة «إرهاب» الشارع والرأي العام المنفعل لا تستطيع الإعلان عن قناعتها هذه.

إذا لم يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته ويفرض على إسرائيل ألا تبقى تتصرف بهذه الطريقة فإن «دوقيِّة» غزة ستبقى دوقية غزة وإن حكومة الطوارئ ستفشل، وأن الضفة الغربية ستشهد ما هو أسوأ كثيراً مما شهدته غزة ولذلك، فإنه لا خيار أمام محمود عباس سوى أن يتحلى بطول النفس، وأن يبقى يطالب بالقوات الدولية وأن يواصل السعي الدؤوب لإقناع من لم يقتنع بَعْدْ من العرب بهذا المطلب وأن يستنجد بالأوروبيين وبالروس وبالصينيين وبكل ما في هذه الأرض لحمل الولايات المتحدة على اتخاذ موقف جاد وجدي إزاء هذه المسألة، وأن تتخلى عن مواقفها الحالية التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مائعة .

إذا بقي محمود عباس (أبو مازن) أسير الهواجس والمخاوف، وإذا لم يحزم ويحسم أمره لجهة الاستمرار بالمطالبة بالقوات الدولية، إن لم يكن هناك مجال لوصاية الأمم المتحدة، فإن القضية الفلسطينية ستدخل نفقاً أكثر ظلمة وسواداً من النفق الذي هي فيه الآن وكل هذا بينما يعرف (أبو مازن) تمام المعرفة أن ما جرى في غزة لم يكن نتيجة خطأٍ في الحسابات ولا سببه مجرد نزوة فردية بل هو خطوة اتخذتها حركة حماس بوعي وعن سابق تصميم وإصرار واستجابة لمعادلة إقليمية لا تشكل قضية فلسطين إلا آخر همومها الحقيقية والفعلية.