قرى الإلهام

TT

صنع غابرييل غارسيا ماركيز، إرثه الأدبي من حكايات بلدته، أركاكاتاكا. ومن مدينة بارانكيا التي عمل فيها صحافياً معدماً في جريدة «الهيرالدو»، في الأربعينات. ومن المناخ الحار في ذلك العالم القاسي، كتب «مائة عام من العزلة»، ومعظم الروائع الأخرى. تخيل بعض الأشياء وترك بعض الأشياء كما هي، مثل «شارع الأتراك». وقد سمي بذلك لأن المهاجرين اللبنانيين إلى الأميركتين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، كانوا يسمون «توركو»، لأنهم جاءوا من بلدان الامبراطورية العثمانية. ولأنهم جعلوا محلاتهم ومخازنهم كما في «البازار» التركي، يعرضون البضائع خارج الدكاكين وعلى الأرصفة.

لم يلتفت أحد بادئ الأمر إلى نتاج ماركيز. وجاء إلى باريس وعاش فيها فقيراً أيضاً ومراسلاً لوكالة الأنباء الكوبية. وعندما عمل في «الهيرالدو»، كان يطبع مقالاته على آلة طابعة من نوع «أندروود». واحتفظت الجريدة بها. وكان كلما صعب على محرر أن يستكمل مقاله، أعطي آلة «غابو»، فتأتيه الأفكار سراعاً. لكن بعدما طارت شهرة «غابو» ومنح نوبل الآداب، نقلت الآلة إلى المتحف الوطني في العاصمة الكولومبية، بوغوتا. أما منزله في أركاكاتاكا، فقد حول أيضاً إلى متحف صغير، لكن شبه خال. وأطلق على الطريق المؤدي إلى البلدة اسم «طريق نوبل». غير أن «غابو» الذي عاد إلى البلدة مرة واحدة عام 1983، لم يمض ليلة في المنزل. وسرت إشاعات تقول إنه جاء ليلاً في سيارة «بي. إم. دبليو»، وتفقد القرية وشوارعها وتوقف طويلاً أمام المنزل، لكنه لم يرد أن يراه أحد.

منزل جبران خليل جبران، في بلدة بشرّي الجبلية، حوّل أيضاً إلى متحف بسيط وغير ذي قيمة. وكانت عائدات كتب جبران تدر على البلدة طوال عقود نحو 50 مليون دولار في العام. فقد كانت كتبه الأكثر مبيعاً في أميركا، وكانت البلدة وريثه الوحيد. وقد عاش في نيويورك يحلم بأن يعود ذات يوم، لكنه عاد جثماناً في الأربعين من العمر. وذات عام، تقاتل أهل البلدة حول عائدات الكتب، فذهب بعضهم إلى قبره وأمعن فيه حفراً.

واختلف الأمر بالنسبة إلى أمين الريحاني، الذي اعتنى شقيقه بإرثه الأدبي وحولوا منزله في «الفريكة» إلى متحف جميل وشديد التنظيم. وفيه الدراجة الهوائية التي سقط عليها ومات عام 1940، وهو في إحدى زياراته لبلده، إذ كان يجوب العالم بحراً وبراً ويقطع الفيافي والمحيطات ولم يسقط إلا على دراجة هوائية. وأما رفيق جبران والريحاني، ميخائيل نعيمة، فقد كان رجلاً منضبطاً حريصاً وشديد الدقة. وعاش حتى جاوز التسعين. وفي أثناء حياته عمل على إقامة مرقد لا يهينه أهالي البلدة حتى لو تشاجروا. ومثل الريحاني ترك نعيمة إرثه وريع كتبه لعائلة شقيقه. وحول «مكتبه» أو مشغله في صخور بسكنتا إلى مزار للأدباء وللقراء.