«أزمة» الصحافة المكتوبة

TT

عاما بعد عام نقرأ عن أزمة الصحافة المكتوبة، خصوصا الأسبوعية. وعاما بعد عام أجد أن المجلات التي اعتدت قراءتها منذ 40 عاما، تزداد ازدهارا وتألقا. وهناك مجلات أشعر بخسارة حقيقية لأنني لم أعرفها منذ ذلك الوقت، مثل «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، التي أصبحت تنافسها في الإبداع والنقد الأدبي شبيهتها «لندن ريفيو أوف بوكس».

تأسست «الإيكونوميست» عام 1843، ولا يعرف أحد أسماء كتّابها أو محرريها أو مراسليها. ويفوق توزيعها المليون نسخة. وليس في «السبكتاتور» صورة أو «خبطة» أو سبق صحافي، لكنها تتألق وقد دخلت القرن الثاني، ولا تزال أرقى أنواع الكتابة الصحافية، من تحقيقات واسعة، أو ملاحظات عابرة، أو صور كاريكاتورية هي أثير الفن الكاريكاتوري، لا تزال تظهر في الـ«نيويورك» كل أسبوع، بدون انقطاع، بدون تهاون، بدون خلل.

الذي انهار إذن، هو الصحافة التي تستحق الانهيار، حيث سادت البلادة بدل التجدد، وحل النقل محل الجهد، والصفاقة مكان الشجاعة، والاستسهال محل السعي. والناس، في كل مكان، ترفض في عالم الفنون والآداب، ما لا يرتقي إلى مستوى الفنون والآداب. وهذا ما يجعل لوحة بأربعين مليون دولار وأخرى مشابهة ظاهريا بأربعمائة. وتحديد الفارق بسيط جدا: واحدة لا تتكرر، وأخرى مثلها مثل مائة ألف لوحة لا تعني شيئا لأحد.

هناك مطبوعات يشعر المرء بالارتياح لغيابها. هذا إذا درى أنها غابت. وهي تسيء إلى مستويات المهنة، لأنها تعلّم الصحافيين الجدد أنه بقليل من البديهيات وكثير من الخمول الذهني يمكن الاستمرار أو البقاء في الأكشاك. مع العلم طبعا أن الأكشاك هي الامتحان الأول. إنك تستطيع أن تخدعها لزمن. لكن يأتي يوم وتمر على عشرين مركز بيع من دون أن ترى فيها مطبوعة كنت تألفها. فشركات التوزيع تتسامح بكثرة المرتجعات إلى حين. ثم تعتذر.

كل شيء قابل للتزوير، إلا هذه المهنة. أي مرشح انتخابي يستطيع أن يعثر على ألف رجل يهتفون له، لألف سبب. وأي صاحب مصنع يستطيع أن يعلن بالأضواء عن منتوج تافه. وأي مهووس يستطيع أن يضع شجرة عائلة يخلص منها إلى أن جده الأول كان نابوليون بونابرت، أو جد نابوليون. لكن أحدا لا يستطيع كسب ألف قارئ بمطبوعة فارغة حتى لو وزعها مجانا على الأبواب. ويجب أن نتفق على أن «الأزمة» التي يتحدث عنها العالم تكرارا هي أزمة المطبوعات الخالية والبليدة والمملة. وهذه سوف تظل تغلق ـ والحمد لله ـ توفيرا للمال والوقت، فيما تستمر المطبوعات المتجددة والمبدعة في الازدهار. ويظل النموذج الأهم منذ قرن ونصف القرن، «الإيكونوميست»، التي يمنعها تواضعها وثقتها العظيمة بالنفس، من نشر أسماء المحررين. ولا نعرف شيئا عن هؤلاء إلا بعد أن يتركوا الصحيفة (لا تسمي نفسها مجلة) وقد أصبحوا من كبار الكتّاب. ومشكلة الصحافة العربية أن 75% من العاملين فيها على أقل تقدير، أصروا على أن يبدأوا كتّابا، من دون أن يجلسوا خلف مكتب يوما واحدا.. وتعجبين من سقمي، صحتي هي العجب.