(صورة السعودي): بين (الملائكية الطاهرة).. و(الشيطانية الرجيمة)

TT

قولوا له: ضع قفلا من حديد على فمك.. من هو؟، هو ذاك الذي يزعم ـ في تعميم مطلق ـ: ان (العالم كله ضدنا).. والحق انه مطلوب (نهضة تحرير): عقلية وفكرية وإعلامية وحضارية وتربوية: تحرر الأذهان والأدمغة من أغلال مقولة أو أسطورة: ان العالم كله ضدنا، أي ضد العرب والمسلمين، ذلك انه في واقع الأمر: ليس العالم كله ضدنا.

منذ قليل: بثت محطة تلفزيونية كندية رئيسية وهي السي تي في برنامجا تسجيليا ـ علميا ميدانيا موثقا ـ موضوعه (الأطباء السعوديون في كندا).

ولقد زخر البرنامج بما يمكن تسميته بـ (ايجابيات الشخصية السعودية) التي تبدت في خصائص وقدرات الطبيبات السعوديات والأطباء السعوديين.. ومن هذه الخصائص والمواهب والمحامد: النبوغ والتفوق.. والجد والمثابرة.. والود الاجتماعي.. والحضور العلمي العالمي الراقي للطبيبات والأطباء السعوديين المبتعثين في كندا.. والجمع بين التفوق الطبي والتماسك العائلي وبالنسبة للمحمدة الأخيرة: كثف التقرير الاعلامي الأمين الضوء على (مميزات) المرأة السعودية التي لا تعرفها المجتمعات الغربية ـ كما قال ـ يقول التقرير: «لا نستغرب اذا رأينا علامات الدهشة والاستغراب تعلو وجوه كثير من الغربيين حين يجدون طبيبات سعوديات متزوجات ولهن اسر يقمن على رعايتها بعناية وفي الوقت نفسه يدرسن بجد ونجاح واقتدار، وبصورة لا تقل عن الطبيبة الغربية التي قد تعزف عن الزواج أو تمتنع عن الانجاب من أجل ان تصل الى المكانة التي تصبو اليها».

هذا (واقع سعودي موثق): ترجمه بأمانة ـ وبالصورة والكلمة ـ: إعلام غير عربي وغير اسلامي، وهو جهد فكري وفني:

أ ـ ينسف وينسخ اسطورة: ان العالم كله ضدنا، ويثبت ان هناك من هو معنا: معنا بعقله وأمانته وانصافه وشجاعته الأدبية، بيد أن (معيته) مشروطة بـ (فعلنا الجميل) الذي يتيح له التعبير عما عندنا من جمال.

ب ـ ويكشف، أي الجهد الفكري والفني الكندي (تقصير) اعلامنا. فلقد غابت هذه (الصورة البهية) عن هذا الاعلام، على حين لو أن حادثا إرهابيا نسب الى سعودي في كندا، لطار الاعلام بذلك الحادث كل مطار، ولقال لنا منظرون وفلاسفة كثر: «ألم نقل لكم: ما من إرهاب يقع في الأرض الا وراءه سعودي»!.

ولتكن هذه الفقرة مدخلا موضوعيا الى هذا المقال الماثل بين أيدينا حيث: ان جوهر المقال وعماده هو (صورة السعودي: بين الملائكية الطاهرة، والشيطانية الرجيمة).

في السنوات القريبة الأخيرة: برز المجتمع السعودي على سطح الكوكب، كما لم يبرز أي مجتمع آخر: برز في صورة مرتبطة بـ (الارهاب)، ولا سيما بعد احداث 11 سبتمبر 2001.. ونقول (ولا سيما)، لأن مقولات (الإسلام السعودي الوهابي المتطرف)! قد سبقت تلك الاحداث النكدة، وفي تقارير رسمية. مثال ذلك: ان حكاية (الاسلام السعودي الوهابي المتطرف) قد وردت ـ بالنص ـ في تقريرين لوزارة الخارجية الامريكية في عامي 1997 و 1998.

هذه القصة المحشوة باللؤم الفكري والسياسي والاعلامي يجب ان تنتهي. إن التفاصيل التي اكتنفت (الفعل الإرهابي) كثيرة جدا. وهي تفاصيل اختلطت فيها الحقائق بالأكاذيب.. واختلط فيها نزق التدين الفاسد وحمقه وجهله بـ (الدهاء العظيم) أو (المكر الكبّار).. واختلطت فيها مكافحة الارهاب بأجندات آيديولوجية تكره الاسلام نفسه وتحاربه.

التفاصيل جد غزيرة، والمعلومات والتحليلات لا حصر لها. وعلى الرغم من ذلك كله.. ظل هناك (خط ثابت) في الاعلام السياسي والفكري والأمني والثقافي.. هذا الخط هو التوكيد المتتابع ـ بلا انقطاع على هذه الفكرة: (وراء كل ارهاب سعودي).. وليس ينقصهم إلا أن يقولوا: ان السعوديين وراء كل ارهاب في التاريخ: وراء مقتل الزعماء الامريكيين: ابراهام لنكولن، وجون كندي، ولوثر كنج.. وان مفجري المبنى الاتحادي في أوكلاهوما قد تلقوا أفكارهم الارهابية في المدارس والمعاهد والجامعات السعودية.. وان المنظمات الارهابية في اليابان وايطاليا والمانيا واسرائيل هي نتاج الفكر السعودي الوهابي المتطرف.

ما معنى ذلك بالضبط؟

من الخيانة ـ بالمقياس الديني والسياسي والفكري والاعلامي والأخلاقي ـ : ان يكون هناك غموض أو ابهام أو زوغان أو روغان أو تدليس في مثل هذه القضايا الفاصلة التي تتطلب اعلى درجة مستطاعة من الأمانة الفكرية والاعلامية.

هل معنى الكلام الآنف: ان الشعب السعودي هو (شعب الله المختار)؟.. نقول بوضوح تام: لا.. لا. من هنا الى يوم النشور، ذلك ان هذا المصطلح غريب المعنى والمقصد والصياغة عن الاسلام. فهو مصطلح يتناقض مع منهج الاسلام الذي جعل للخيرية شروطا، ليس من بينها، - بالقطع – (الخيرية الجينية) أو العنصرية، بمعنى أن الشعب السعودي خيّر بطبعه وجبلته مهما اقترف من آثام!!. فـ (الخيرية) في الاسلام (كسبيّة): متاح لكل أمة اكتسابها: بالعلم الحقيقي.. والاعتقاد الصحيح.. والعمل الصالح.. والخلق الرفيع، سواء كانت هذه الأمة عربية أو أعجمية: آسيوية أو أوروبية أو افريقية.. والبراهين على ذلك هائلة، منها ـ مثلا ـ: «ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية»... «ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به".. نعم.. هناك من غلا فقدم السعوديين في صورة أنهم (شريحة بشرية استثنائية من الأطهار)، وهو غلو كذوب من الناحية الأخلاقية، وفشل كبير من الناحية الاعلامية. فالمدح المسرف المطلق للذات ينتج صورة معاكسة أو مضادة تجلب الذم، أو تجلب النفور على أقل تقدير.. والحقيقة أن السعوديين: بشر من البشر، فيهم الصالحون الأتقياء الأسوياء الذين تشم فيهم أريج الطهر والاستقامة والرقي والنبل.. وفيهم الحرامية والمختلسون والكذابون والكسالى وعديمو الايمان والوطنية (بالمناسبة: هذه الرذائل ليس مصدرها التعليم الديني ولا جمعيات تحفيظ القرآن).. وفي السعوديين ـ كذلك ـ: غلاة وارهابيون، وهو غلو وارهاب يُسأل عنه (الفهم المنحرف لدين الاسلام)، وليس مصدره دين الله الحق الذي هو رحمة كله.. ورفق كله.. وأمن كله.. وسلام كله.. ولطف كله: لطف في الضمير والتفكير والبسمة والصوت والمشية والسلوك بوجه عام.. «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا. واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما».

بتصعيد درجات الوضوح نسأل: من هم (السعوديون)؟.. قد غشي الناس عجب من هذا السؤال البديه، لكن الإرجاف بالباطل حول ما هو مألوف ـ للتشكيك فيه وتقبيحه ـ ينبغي ان يكون فرصة حافزة على تجديد ما هو مألوف معروف: ابتغاء ترسيخ اليقين به، إذ لا يترك يقين ما عند الذات: لشك ما عند الآخرين.

السعوديون ناس من الناس: ليس لهم (جينات) خاصة (تجبرهم) على أن يكونوا إرهابيين، ولو أرادوا غير ذلك. فحكاية الجينات الارهابية الخاصة هذه: ادعاء لم تثبته حقيقة من حقائق علم البيلوجيا أو التشريح. وبافتراض أن العلم أثبت ذلك، فإن السعوديين يستوون في ذلك مع سائر زملائهم البشر، أي مع أكثر من ستة آلاف مليون إنسان هم سكان الكوكب الأرضي من الأناسيي اليوم. وبالمساواة: لا يستطيع أحد أن يعيّر أحدا بتهمة الإرهاب، إذا الأصل واحد، ولأن السوء في بعضي يسوؤني.

ونقفّي على السؤال الجيني الجبلي الكوني: بالسؤال الثقافي الفكري المنهجي المختار فنقول: ما ثقافة السعوديين ومنهجهم الفكري الذي منه ينبعثون، وإليه يرجعون؟.. فقد تلتاث البراءة الجبلية الأصلية: بثقافة فاسدة. أو بنهج معوج، أو اعتقاد عدواني يؤز معتنقيه على العدوان أزا.. وإذ يتعذر بسط المنهج الذي يستمد منه السعوديون زادهم التعليمي والثقافي والفكري. فإنه يغنى عن البسط: النموذج الأهم في هذا المنهج وهو (خصائص العقيدة) التي يدرسها كل سعودي في مراحل تعليمه.. وإذا كان من الشائع: أن السعوديين يدرسون (العقيدة الحنبلية) فحسب «!!!»، فإن الصحيح المستقر هو: انهم يدرسون عقيدة الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل (جماع هذه العقيدة في كتاب يسمى الطحاوية، ومؤلف الكتاب إمام من أئمة المذهب الحنفي وقد قال في مقدمة كتابه هذا: إنه حرر عقيدة شيوخه: ابي حنيفة، والشيباني، وأبي يوسف).

من خصائص هذه العقيدة (الجامعة) التي يتتلمذ عليها السعوديون جميعا في التعليم الرسمي: ألاّ نكفر مسلما بذنب أو كبيرة.. وألا نقاتل الحاكم.. وألا ننازع الأمر أهله.. وألا نؤل الدين تأويلا فاسدا.. وألا نحمل السلاح على الأمة.. وألا يكون الجهاد إلا خلف حاكم شرعي ارتضته الأمة: يباشر الدفاع عن الأمة بشروطه المعتبرة ومن أهمها: القدرة عليه (فالوجوب مشروط بالقدرة).. وتقدير ضرورته أو المصلحة فيه.. والمشورة الناجزة، ثم العزم والقرار. هذا هو المنهج الفكري الذي يتربى عليه السعوديون، والذي يصدق تاريخهم السياسي والاجتماعي انهم ملتزمون به. فالسعوديون لم يُعرفوا بالراديكالية أو الثورية، بل عرفوا بأنهم قوم معتدلون محافظون توافقيون مسالمون، وربما أسرفوا في ذلك، إن صح أن في الاعتدال إسرافا!.

لا شك في أن طريقة أهل العنف والإرهاب متناقضة مع هذا المنهج، فهم مولعون بتكفير المسلمين، منازعون الأمر أهله، حاملون للسلاح على الأمة، متأبطون العنف أبدا نزاعون إلى تأويل الدين تأويلا فاسدا، يقاتلون بلا إمام شرعي: ذي بيعة وسلطة وإقليم ونظام.

والحق: ان المنهج الذي أطبق السعوديون على مدارسته وتمثله: غائب عن الناس: الأقربين منهم والأبعدين. ولقد استغلت دوائر معادية هذا الغياب فسارعت إلى الصاق تهمة الإرهاب بالسعوديين أجمعين بزعم: ان البيئة السعودية منتج للإرهاب!.

ومما لا ريب فيه: ان الذات تتحمل نصيبها من المسؤولية عن هذا الغياب المؤذي، فليس من العقل ولا من الواقع: أن تطلب من الآخرين: اختراع صورة جميلة لك يتخيلونها من عند أنفسهم، بينما أنت خامل لا تسهم في رسم تلك الصورة. بل ثبت أن منا من يسهم في تقبيح الصورة: بالتعميم الخاطئ.. أو بالتعليل الفاسد (العقيدة هي مصدر الإرهاب).. أو بانتهاز الفرصة لتسوية حسابات أو الانتقام من تيارات معينة لا يطيق وجودها... وهذا منزع يكاد يساوي ـ في الجنون ـ منزع الإرهابيين من حيث خدمة الإرهاب وتعزيز وجوده عن طريق تكثير سواد الإرهابيين، أو تصوير عددهم في صورة انه لو جرت انتخابات (بالافتراض الجدلي): اكتسحها الارهابيون نظراً لكثرة أتباعهم ومؤيديهم!

ولا نبرح المجال حتى نجتلي حقائق ثلاثا: حقيقة: أن هناك سعوديين (ارهابيين).. وتقتضي هذه الحقيقة: الشفافية الكاملة في البوح بالمشكلة: توطئة للتعامل العلمي والميداني معها.. وحقيقة أن المشتغلين بالاسلام ـ مهنة ورسالة ـ لا يزالون جد مقصرين في مجاهدة الارهاب: فكريا وميدانيا. ولن يرفع هذا التقصير إلا بالتوبة النصوح المتمثلة في مطاردة الإرهاب ـ بلا هوادة ـ في كل فكرة تحمل بذرة أو جرثومة إرهاب.. وحقيقة ان فتح العين على القصور الذاتي ينبغي أن يقترن بفتحها على العوامل الخارجية.. لقد اكتشف ـ في السعودية ـ شبكة إرهابية اجرامية تستهدف المنشآت النفطية.. وقبل ذلك بشهور ناقشت لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الامريكي، مع مسؤولي البنتاجون في 26 أكتوبر 2006 تقريرا عن (توقع حدوث اضطرابات في السعودية) تؤثر في امدادات النفط. واقترح التقرير تجهيز عشرة آلاف جندي أمريكي لاحتلال المنطقة الشرقية في السعودية لحماية المنشآت النفطية المهددة من قبل الأصوليين الإرهابيين.. فهل هو تبادل أو تكامل أدوار: يقوم الإرهابيون بأعمال تخريبية في المنشآت النفطية (تبرر) التدخل أو الوصاية العسكرية الأمريكية؟!.. وما هي (حاجة) المغامرين الدوليين الى وجود (إرهاب داخلي أو محلي)؟.