لماذا يتقاتل اللبنانيون؟

TT

كنت وصديق عزيز نجلس في أحد المقاهي الجميلة في بيروت، نمتع البصر بالمناظر الجميلة، ونتجاذب أطراف الحديث. كل شيء حولنا كان جميلاً وممتعاً سواء كنا نتحدث عن البشر أو الشجر أو الحجر، فليس أمامك إلا خضرة وماء ووجه حسن. اللبنانيون من حولنا، فلم يكن هناك الكثير من السياح، يبدون في غاية الدماثة والرقة وهم يتحدثون مع بعضهم بعضا، باسمين لبعضهم بعضا كلما التقت العيون بالعيون، وكأن لا أثر للأوضاع المحيطة بحياتهم، أو كأنهم لا يعيشون في لبنان الذي يتصدر نشرات الأخبار، أو ربما اعتادوا على الأمر، فلم يعد ما يحدث من حولهم يثير اهتمامهم أو يكدر مشاعرهم. نظرت حولي وأنا أتأمل كل هذا الجمال المحيط، وسألت صديقي فجأة: لم يتقاتل اللبنانيون ويتخاصمون، ولديهم كل مقومات الحياة الجميلة، من طبيعة معطاء، وثقافة منفتحة، ومجتمع سلس حين تتعرف إليه بعمق؟ ربما أتفهم الصراع من أجل البقاء في مجتمع صحراوي مثلاً، ولكني عاجز عن فهم الحالة اللبنانية.

حقيقة لم أكن اسأل صديقي بقدر ما كنت اسأل نفسي. نظر إليّ صديقي مستغرباً، وفي عينيه سخرية واستغراب، وهو يقول: ظننت أنك أعلم من ذلك بكثير.. إنه صراع الطوائف يا عزيزي على قطعة كعك صغيرة، فمنذ إنشاء لبنان الكبير وتاريخه هو تاريخ الطوائف وصراعها.. لا بد أنك تعرف كل ذلك. نظرت إليه من جديد وأنا أقول: الكل يعرف ذلك يا عزيزي، ولكن يبقى السؤال باحثاً عن إجابة، لماذا يتقاتلون؟ الاختلاف الطائفي لا يبرر الصراع، فالكثير من دول هذا العالم تتعدد فيها الطوائف والأعراق والقبائل والألوان، ولكنها لا تعاني من الطائفية أو العرقية أو القبلية وصراعاتها. مد صديقي نظره صوب البحر الذي كان يتلألأ من بعيد، تحت أشعة شمس ذهبية تنحدر سريعاً إلى البحر، ثم قال: لعل استغلال هذه الطائفية من قبل قوى خارجية هو السبب. فتلك القوى الخارجية، وعلى مر تاريخ لبنان، كانت دائماً تخوض معاركها على أرض لبنان. تضافر الطائفية مع التدخلات الأجنبية هو الذي يجعل من لبنان ساحة حرب دائمة، وحالة توتر مزمنة. أعتقد أن هذا هو الجواب.. ما رأيك؟ نظرت إليه وما زلت حائراً وأنا أقول: لعل في تحليلك يكمن بعض جواب ولكنه جواب لا يشفي الغليل، فالتدخل الأجنبي لا يكون ذا أثر ما لم يجد له استجابة في الداخل. إنه شيء أشبه ما يكون بالقابلية للاستعمار التي تحدث عنها مالك بن نبي.

وعاد صديقي لتأمل البحر من جديد، وقد اقتربت ساعة غرق الشمس في الماء العميق قبل أن يقول: وجدتها.. نعم وجدتها.. إنها حالة خوف.. فوبيا.. لدى الطوائف اللبنانية من بعضها بعضا، ومن القوى المحيطة التي تريد السيطرة عليه، لصالح هذه الفئة أو تلك في النهاية، وكل طائفة من الطوائف اللبنانية أحست بالغبن، السياسي والاجتماعي، في هذه اللحظة أو تلك من تاريخه، حتى أصبح الإحساس بالغبن، أو الخوف منه، ثقافة تجمع كل اللبنانيين باختلاف طوائفهم، وتقف وراء هذا السلوك أو ذاك، في هذه اللحظة أو تلك.. لذلك فإني أعتقد أن كل طائفة تحاول أن تستغني بذاتها عن غيرها، فلا تعتمد اعتماداً دائماً على غيرها، ولا حتى على الدولة التي يُفترض فيها أن تكون للجميع، وأن ترتبط بدولة خارجية حامية.. ربما تتحالف هذه الطائفة مع تلك في وقت من الأوقات، ولكنه يبقى تحالفاً مؤقتاً مرتبطاً بظروف معينة، ما أن تنتهي تلك الظروف حتى تنتهي العلاقة، وبذلك يتحول لبنان إلى كيان فسيفسائي قابل للانفجار في أي لحظة وفي كل لحظة. قال صديقي ذلك، ورسم ابتسامة الرضا على شفتيه، فيما أخذت أتأمل آخر جزء من قرص الشمس وهو يغرق مسرعاً في أعماق المتوسط، وما زال السؤال حائراً: لماذا يتقاتل اللبنانيون؟

سؤال بسيط، ولكنه في غاية التعقيد من ناحية أخرى، كما هي الحالة اللبنانية. نعم.. لماذا يتقاتل اللبنانيون؟ الطائفية، والتدخلات الأجنبية، وخوف الجميع من الجميع، وظروف نشأة لبنان الكبير، كلها عوامل قد تفسر جزئياً الحالة اللبنانية، وهي تفعل إلى حد كبير، ولكنها غير كافية بحد ذاتها لتفسير حالة التوتر المزمنة في لبنان. فكما قيل سابقاً، فإن الكثير من الدول تتعدد فيها الطوائف والأعراق، ولكنها لا تعاني من مشكلة في هذا المجال. والتدخلات الخارجية في شؤون دول أخرى لم تتوقف يوماً، ولكن ذلك لم يخلق حالة توتر واحتقان دائمة، كما في الحالة اللبنانية. وخوف الجميع من الجميع وجد في دول كثيرة، ولكنه حُل في النهاية وفق ضمانات قانونية ودستورية ومؤسساتية ألغت حالة الخوف في النهاية، وعادت الدولة وطناً لكل المواطنين، بصفتهم مواطنين وحسب.

في ظني أن المشكلة اللبنانية هي مشكلة وطن قبل أي شيء آخر، وإذا ما حُلت هذه المشكلة، يتلاشى أثر بقية المشاكل والعوامل الأخرى الخالقة لحالة الصراع. وعندما نقول «مشكلة وطن»، فإن المقصود هو أن اللبناني لا يعتبر نفسه لبنانياً أولاً، ثم تأتي من بعد ذلك بقية الانتماءات الفرعية، بل هو شيعي أو ماروني أو سني أو درزي أولا، ومن بعد ذلك تأتي «اللبنانية» كإطار هوية ضعيف، يجمع اللبنانيين شكلاً، فيما المضمون هش متهافت، وقابل للتفتت في أي لحظة. بل أنه حتى الأحزاب المتجاوزة للدولة الوطنية، والانتماءات المتجاوزة لمفهوم الوطنية، والمؤسسات التي يفترض فيها أن لا تكون ذات علاقة بالطائفة والطائفية، هي في مضمونها طائفية حتى النخاع، أي لم تصل حتى إلى مفهوم الوطن والوطنية، وإن قالت بما هو متجاوز لها. فإسلامية حزب الله مثلاً، التي تتجاوز في إيديولوجيتها المطروحة الوطنية والقومية معاً، وصولا إلى ما هو أبعد وأوسع من ذلك، نجدها عند التحليل الأخير شيعية التوجه، طائفية المضمون، وما إسلاميتها إلا نوع من حماية لوجود الطائفة الداخلي، وخاصة في ظل وجود دولة خارجية تطرح نفسها على أنها حامية الطائفة في المنطقة، في تجاوز واضح لمعنى الدولة الوطنية، ولكن ليس من أجل تحقيق ما تقول به الإيديولوجيا المطروحة، ولكن من أجل تبرير سلوك طائفي يخلق في النهاية دولة في داخل دولة.

وعندما كانت القومية هي المهيمنة على الساحة السياسية العربية مثلاً، كانت الطائفة السنية تحديداً هي الممثل الرئيس للاتجاه العروبي في لبنان، لأن هذه الطائفة وجدت في العروبة والانتماء العربي الأوسع، خير ضمانة لحضورها الداخلي ذاته، وبالتالي فإن القضية في النهاية ليست قضية عروبة أو قومية، بقدر ما هي قضية طائفة. وذات الشيء يمكن أن يقال عن الموارنة وأحزابهم، والدروز وتنظيماتهم، والأرثذوكس وتوجهاتهم، والأقليات الأخرى وتطلعاتهم، بحيث يمكن في النهاية تحديد، وإلى حد بعيد، الطائفة التي ينتمي إليها أحدهم من مجرد معرفة توجهه السياسي.

ومع ذلك يبقى سؤال مهم، لا يكتمل الحديث عن المسألة اللبنانية من دون البحث عن إجابة له، وهو: لماذا كانت هذه الهشاشة في مفهوم الوطن والوطنية في لبنان، وضمور الإحساس بالوطنية اللبنانية، في مقابل الانتماءات والهويات الأخرى، سواء تلك التي تطرح إيديولوجيات متجاوزة للوطن والوطنية، أو تلك التي لا تتجاوز حدود الجماعة الفرعية؟ الجواب يكمن في ظني في بنية أو تركيبة الدولة اللبنانية، التي تكرس الطائفية والفسيفسائية الاجتماعية، عوض أن تكون بوتقة ينصهر فيها الجميع، في ظل مفهوم المواطنة الواحدة. فمنذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة، وكل شيء متعلق بالدولة وتنظيماتها ومؤسساتها مغموس بالطائفية، بحيث أنه حتى عندما يكون هناك أمل بتلاشي هذه الطائفية، وإن كان هذا أملا بعيد المنال في لبنان، فإن هيكل الدولة اللبنانية يُذكر بها، ويعيد بعث الروح فيها بشكل من الأشكال. فالاتفاق الوطني اللبناني بعد الاستقلال مثلاً، إنما هو تشريع للطائفية، ودسترة (من دستور) لها، قبل أن يكون حلاً للعلاقات بين الطوائف، ومواقعها في السلطة الجديدة. وعندما جاء اتفاق الطائف حلاً للحرب الأهلية اللبنانية، لم يكن الأمر أكثر من تحديث للاتفاق الوطني القديم، فيما بقي الهيكل واحداً، وهنا تكمن المشكلة. المشكلة إذاً، وفي جذورها العميقة، لا تكمن في الفسيفساء الطائفية اللبنانية غير المتمازجة، ولا في تدخلات الآخرين ونقل معاركهم إلى الساحة اللبنانية، ولا في حالة الشك المرضي السائد بين هذه الطوائف، فكل هذه الأمور هي في النهاية أعراض لمرض هيكلي في مجملها وليست أسباباً للمشكلة. المشكلة اللبنانية تكمن في تركيبة الدولة اللبنانية التي تجذر الطائفية، وبالتالي تلغي مفهوم دولة الكل في الذهن اللبناني، الذي معه يُصبح كل انتماء ممكناً، إلا الانتماء إلى لبنان. من خلال إعادة هيكلة الدولة يبدأ الحل، وهو إعادة لبنان لكل اللبنانيين، وإعادة اللبنانيين إلى لبنان، وكل حل دون ذلك هو حل مؤقت لا يلبث أن تذروه الرياح حين تغير اتجاهها، وما أكثر ما تغير الرياح اتجاهاتها في شرق أوسط تكثر فيه الأعاصير، وتكسوه رمال متحركة لا قرار لها..