قيم الجمهورية في تونس.. في ميزان الخمسينية

TT

المناسبات الكبرى في حياة الشعوب بقدر ما تمثل مواعيد مع ما هو احتفالي، بقدر ما هي فرصة مبررة للنظر والتأمل والمراجعة والقبض على المتحقق وعدمه في نفس الوقت.

وكل الشعوب التي تقدمت وقاطعت كل مظاهر التخلف والانحطاط، كانت جادة حتى في أكثر مناسباتها فرحا وانطلاقا. ذلك أن الجدية في مقاربة المكتسبات ووضع الإصبع عند الثغرات يشكلان الطريق المثلى الضامنة للتقدم في الممارسات الاجتماعية المنشودة.

ولعل تونس الخضراء وهي تحتفل حاليا بمرور خمسين عاما على تاريخ إعلانها الجمهورية يوم 25 يوليو1957، لا نخالها تشذ عن القاعدة. فالمناسبة من الأهمية بما يجعلها تقارب العملة من الوجهين لا الوجه الواحد .

طبعا لا شك أن مجرد التحدث عن مرور خمسين سنة على حدث إعلان الجمهورية في تونس، يعكس تجذر قيم الحداثة وثقافتها ومظاهرها في تاريخ تونس المعاصر حيث أن إرساء الجمهورية وإلغاء حكم البايات أي الملكية، يعني ـ على المستوى النظري على الأقل ـ أن النخبة السياسية آنذاك، قد رامت محو حقبة كاملة من الحكم «الباتريمونيالي» وبناء زمن سياسي جديد تكون فيه السلطة والولاء للقانون وللعقلانية والديمقراطية. بالإضافة إلى ما تنطوي عليه هذه المنظومات من استحقاقات أخرى على غرار الفصل بين السلطات والمأسسة والحرية والمواطنة والحريات العامة والأساسية وحقوق الإنسان.

كما أنه من المهم التذكير بأن حدث إعلان الجمهورية في صائفة 1957، قد مثل نتيجة حتمية لنضال أجيال متعاقبة من أجل الفكر الإصلاحي والتحديث السياسي والاجتماعي.

فالنضال يعود إلى عهد أحمد بن أبي ضياف، والمصلح خير الدين باشا التونسي، مؤسس التعليم المزدوج في تونس، الذي أنتج النخبة الميالة إلى الثقافة الفرنسية وعلى رأسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية.

وبحكم أن فكرة الجمهورية تشترط كتابة دستور يضمن لكل المؤسسات الثلاث صلاحياتها وخطوطها الحمراء، فإن الحزب الذي ناضل ضد الاستعمار، أي الحزب الدستوري الحر والذي لا يزال الحزب الحاكم في تونس (أجريت تحولات جزئية على اسمه وصولا إلى تسمية «التجمع الدستوري الديمقراطي»)، قد حافظ على مصطلح الدستور، كعلامة أولى وأساسية للنظام الجمهوري، مضيفا مصطلح الديمقراطية كجناح أساسي في عملية تجديد مبادئ الجمهورية وقيمها.

وفي الحقيقة جسد إعلان الجمهورية في تونس الشق السياسي من مشروع التحديث الذي تبنته النخبة السياسية الحاكمة في بداية الاستقلال.

ذلك أن الدولة الوطنية قد قامت بعدة إصلاحات هدفت إلى تفكيك البنى التقليدية للمجتمع التونسي وتبديد ما يحيل على ثقافة الرعية والنظام الملكي الاستبدادي. ومن المظاهر الإصلاحية الكبرى، نذكر إصدار مجلة الأحوال الشخصية الثورية والجزئية وأيضا إلغاء المحاكم الشرعية والتعليم الزيتوني ونظام الأوقاف وتعويض ذلك بمحاكم مدنية وتعليم عصري.

ولعل من يطلع على ديباجة الدستور التونسي وفصوله يندهش إيجابيا من دقته وإلمامه بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بحقوق الأفراد. فهو دستور بدا منذ كتابته شبه مكتمل، خصوصا أن الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة كان رجل قانون إلى جانب عدة وجوه أخرى مثل أحمد المستيري أول وزير عدل في تونس.

ولكن في دولة يتوفر فيها دستور متقن الكتابة وعميق المضمون ويمتلك فيها النظام الجمهوري تراكما تاريخيا يأتي على نصف قرن، هل تغلغلت فيها ثقافة الجمهورية وأصبحت أساس الممارستين السياسية والاجتماعية؟

إذا ما انطلقنا من موقف جون جاك روسو الذي يرى أن الفاعل الاجتماعي يصبح جمهوريا في ثقافته، عندما يرضع مع حليب أمه الحرية والقوانين، فإن المنطق يقول إن تاريخ فكرة الجمهورية وإعلانها في تونس، لا يعنيان تحولها إلى ممارسة متغلغلة في الفعل الاجتماعي التونسي الى المستوى المطموح إليه.

وإن كان الكثير قد تحقق ، فإن الكثير أيضا لا يزال أمام التغلغل الكامل والعميق لكافة قيم الجمهورية وشروطها.

ولا ننسى أن الزمن الذي يتطلبه تجذر قيمي وذهني ورمزي في الممارسة وفي البناء العقلي للفرد، يختلف في طوله وإيقاعه عن أعمار الأفراد. وكم من فكرة استدعت قرونا لتصبح نبتة ذات امتداد في الأرض وفوق الأرض.

من هذا المنطلق فإنه لا يزال أمام الجمهورية بعض العقبات التي تحول دون تجليها بالشكل الكامل والواثق. ومن هذه العقبات ما يخص ملف الإعلام الذي لا يحظى بالرضى سواء من الإعلاميين التونسيين أنفسهم أو حتى من الجهة الرسمية، ونعتقد أن حل مشاكل القطاع الإعلامي وقيام الإعلام بأدواره بأقصى ما يمكن من الحرية سيفيد تونس ويعزز صورتها، باعتبار أن الإعلام مرآة حقيقية من خلالها تقاس حالة الديمقراطية في أي بلد بالإضافة إلى أن تفعيل دور المجتمع المدني بأكثر قوة، سيساعد بشكل عميق في تعزيز قيم الجمهورية وثقافتها.

إن تونس التي لم تدخر جرأة في الخمسينات من القرن الماضي لمنع تعدد الزوجات والتي لم تهدر تضحيات الشهداء الحالمين بالبرلمان وبالدستور وبالجمهورية، لقادرة اليوم على مواصلة المسيرة بخطى أكثر طولا في إطار ما يجعل الممارسة السياسية والاجتماعية هاضمة ومشبعة بكل قيم التحديث وثقافة الجمهورية وما تعنيه من عقلانية وديمقراطية وإعلام حر ومجتمع مدني قوي الفعل والحضور.

لقد بدأ التحديث مع بورقيبة الذي وفر للمجتمع التونسي تعليما مجانيا وإجباريا وحصن المرأة بمنظومة قانونية تحميها وتدعمها، وقام الرئيس الحالي زين العابدين بن علي بإنقاذ تونس من حالة الانفلات وأرسى مشروع التغيير وحصن البلاد من أخطار التطرف الديني وانحرافات الإسلام السياسي.

ومثل هذا الرصيد يجعل توقعات التونسيين في الذكرى الخمسين لإعلان الجمهورية أكبر من أي وقت مضى... بل يليق بهم ويحق لهم توخي نفس الجرأة والقوة في جعل الخيار الديمقراطي حقيقة تلمس وترى وتسمع. ذلك ان الاستحقاق الديمقراطي وحده الذي يجدد اليوم مضامين المشروعية السياسية ويجعل من الجمهورية متحققة ومكتملة.

[email protected]