ولكن هذه الجدران لا تقول!

TT

ما الذي تقوله الجدران.. ما الذي ترويه المقاعد والأطباق والشوك والسكاكين.. إنها مثل الأسطوانات القديمة تدور وفوقها إبرة. هذه الإبرة هي أقلام الشعراء وفرشاة الفنانين.. فالمقاعد تدور وتقول إذا غمسنا فيها القلم والفرشاة.. إنني أتحدث عن المقاهي التي كان يجلس إليها الأدباء والفنانون بعيداً عن البيت والمكتب والديوان..

توفيق الحكيم كان له اكثر من مقهى ومطعم، ونجيب محفوظ كان له أكثر من مقهى، والفيلسوف العظيم سارتر أكثر من مقهى.. وربما كان الفارق هو أن سارتر كان يكتب.. أمامه كثير من الورق وزجاجة نبيذ..

والناس يحترمون حريته ويمشون على أطراف أصابعهم ويرون معجزة الإبداع.. كيف يسيل الكلام سحرا من قلمه ورقة وراء ورقة وكأساً وراء كأس.. وإذا نظر الفيلسوف ولم يجد أحداً يتحرك فإنه يصفق ويشير الى الجرسون أن يجعل الضيوف يتحركون ويحدثون أي صوت.. فهذه الحركة والصوت تمكنه من التركيز والإبداع!

أما نجيب محفوظ والحكيم فكلاهما يتكلم ويقول ويسمع.. ساعة وراء ساعة وضيفاً وراء ضيف. وقد عرضت الفنادق الكبرى في القاهرة أن تخصص لي ركناً أجلس إليه مع من أحب.. ولكني ترددت كثيراً. فإلى جانب أنها مرهقة.. فإنني لا أعرف أين يذهب كلامي وكيف يتلقاه من يعنيه الأمر اذا كان الكلام في السياسة. واعتذرت شاكراً..

ويجلس الآن في نفس الاماكن أدباء آخرون. ولكن المقاعد والمناضد والجدران لا تقول شيئاً.. هم الذين كانوا يقولون ويدعون وأما هذه الأشياء فشهود على ذلك.. والفرق بين خلق الله وهؤلاء الكبار جاءت في عبارة الشاعر الرومانسي بيرون: ينظرون الى ما ننظر ولكنهم لا يرون ما نراه.