ليل البوم

TT

بعد أن قرأ وليم بتلر بيتس «أنساب الأخلاقيات» كتب ملاحظة في أسفل الصفحة الأولى هذا نصها: «ولكن لماذا يعتقد نيتشه ان الليل لا نجوم فيه، وما هناك سوى الوطاويط والبوم وقمر يدور على هواه؟» كان نيتشه قد فقد شكوكه في الانسانية وتكهن لها بمستقبل قاتم من الحروب والمجازر والوحشيات قبل قليل من نهاية القرن التاسع عشر، ثم مات في 1900، العام الأخير منه.

وفي تأملاته للقرن العشرين يقول جوناثان غلوفر، أستاذ الفلسفة في أوكسفورد في كتابه «التاريخ الأخلاقي للقرن العشرين» انه يجب ألا نتأمل فقط في ما حدث في القرن العشرين، بل علينا ان «نتأمل ايضا بقسوة ووضوح، في الوحوش التي في داخلنا ونبحث عن وسائل ضبطها وتدجينها».

يستوقف الناس الصحافيين في الطرقات والمطارات ومصاعد الفنادق ويطرحون عليهم سؤالا موحدا مثل البزة العسكرية: «ماذا تعتقد؟» انهم يريدون ان يسمعوا أي كلمة مخالفة لما يرون، وما يخافون، ويتوقعون. لكنني لا ارى في هذا الليل سوى ما رآه نيتشه من طيور ليست كالطيور بل كالفئران، ومن بوم ينعق بدل ان يغرد ويسهر الليل ناعقا فيما تنتظر طيور الله عودة الفجر لكي تقوم وتغني مسبحة لجمال الوجود.

لا يتذكر العراقيون أنهم مروا في حقبة أسوأ من التي يمرون بها اليوم، دون أن يعرفوا الى أين ستؤدي. ولا يذكر الفلسطينيون مرحلة أخطر من المرحلة التي يعيشونها اليوم، ولا يعرفون كيف وأين ومتى ستنتهي. ولا يشعر اللبنانيون أنهم عرفوا المرارة والانشقاق والانحطاط الذي يعرفونه اليوم، حتى عندما تذابحوا على الهوية وطاردوا بعضهم، خصوصا رفاقهم، من شارع الى شارع، ومن مدينة الى مدينة ومن جبل الى جبل. والسبب ان ثمة شعورا عاما بأن الفرقة هذه المرة قد تكون نهائية وأن جميع الأبواب مغلقة بإحكام. العراقيون يخشون ألا يعود العراق كما كان. والفلسطينيون يخافون أن يكون الجرح قد قسّم الأرض أيضا. واللبنانيون يشعرون أن كل فريق يريد أن يأخذ قطعة من الأرض الخضراء ويحولها الى خندق، ومن الخندق يشعل قطعة الأرض المقابلة. والذي يجعل المسألة أكثر سوءا ورعبا هو الوضع العام في المنطقة. ثمة غيوم في كل مكان، وعلى جميع الأشجار العارية بوم نيتشه ينعى، والوطاويط خارجة من تحت كل السقوف تدعي توزيع النور وهي غير قادرة على العيش إلا في الظلام.

لم نخترع في عصور الانحطاط هذه مسمارا أو علبة لكننا نستخدم آخر اختراعات العلم لكي نسب بعضنا بعضا ونشتم ونعرض شريطا عن كيفية حز الرؤوس. وباسم حرية الرأي نحول الحوار الى فؤوس. وكل جهاد فكري وعقلي بسطناه الى قتل يومي. وفي وقاحة فاجرة يقوم من يتهم الحركات الفكرية ومصابيح الاضاءة بأنها كانت تهدم وتدمر. ولا تبحثوا عمن يطلق الرصاص ويمزق أحشاء الابرياء، ولا عمن جعل موت مائة عراقي كل يوم خبرا لا يستحق النشر. ابحثوا عن الذين حولوا الموت الى صناعة أكثر ربحا من أي تجارة أخرى.