فاطمة وأنا.. وطقوس التوبة

TT

في 4/4/1944 تقدم إلي صبي وأنا ألعب الحجلة مع أصدقاء في فناء عمارات دائرة سيف الدين، المؤمن للعب الأطفال، بشارع الرصافة بحي محرم بك بالإسكندرية، وقال لي بشكل مباشر وواضح: «باباكي مات يا صافي ناز!». توقفت عن اللعب ووضعت ساقي الأخرى على الأرض وقلت له كأنه شتمني: «أهو إنت يا قليل الأدب!»، وهرعت أصعد إلى عمارتنا. وجدت باب بيتنا مفتوحا فاندفعت إلى غرفة أبي. كانت مضاءة فالوقت كان مغربا، وأبي في مكانه على السرير النحاسي الأصفر، نائما كما ظننته والملاءة البيضاء تغطي وجهه. تقدمت بهدوء وكانت أمي جالسة ساكنة في وجوم، قلت لها: «بابا؟»، فقالت: «ارفعي الملاية من على وشه وبوسيه». فعلت، ووجدته نائما فعلا فاطمأننت وقلت باسمة لأمي: «نايم بس يا ماما ما تخافيش».

في طريقي للخارج عائدة إلى اللعب بحثت عن شقيقتي فاطمة، قائدتي القوية، إذ كنت في السادسة وكانت في الثامنة، شكوت لها: «الولد قليل الأدب قال كلام وحش عن بابا»، فقالت فاطمة على الفور: «ح اضربه... هو قال إيه؟»، قلت لها، فقالت هامسة: «ماهو كده!»، قلت أجادلها: «أنا شفته نايم!»، قالت: «ماهو كده»! انزويت تحت كتفها أحاول أن أفهم، فهي العليمة دائما ببواطن الأمور.

كانت جارتنا تقول: «لا تلعبوا الحجلة تحت الشباك لأنها تجلب السوء». قلت لفاطمة: «بابا مات عشان كنا بنلعب الحجلة؟»، هزت رأسها في تفكير ونظرت إلي وقالت: «كان لازم نسمع الكلام وما نلعبش الحجلة.. بس معلش خلاص». نظرت في أسف وندم: لو لم نلعب الحجلة لما مات أبي، واعتبرت نفسي وفاطمة مذنبتين ومسؤولتين مسؤولية مباشرة عن وفاة أبي، فكم نهرنا على لعب الحجلة ولم ننتهر، بل كنا نذهب إلى الأرض الخلاء المجاورة، من دون إذن، لننتقي منها قطع البلاط أو الرخام الملائمة للعبة، ونساويها على حافة سلمة ونحكها في البلاط لتصير أطرافها ناعمة وتصقل بالشكل الذي يجعلها تنزلق انزلاقا فنيا متحكما فيه يحقق سهولة الانزلاق مع ثقل في حركة الرخامة مطلوب في الوقت ذاته. كنا نتعب في إعداد قطعة الرخامة هذه أو قطعة البلاط المشابهة، وما أن ننجح في الحصول على ما نريد حتى تضبطنا جارتنا وتنزعها منا وتطوح بها وهي تزعق: «أبوكو عيان بلاش لعب الحجلة». آخ يا فاطمة! لا بد أن نستغفر الله على ذنبنا في موت أبينا.

امتلأ البيت بالسواد والحزن وكانت ماما ساكنة تبكي بلا صوت إلى جوار جسد أبي الساجي، وبعض النساء في المطبخ يصنعن لقمة القاضي، وكلما رآنا أحد أقربائنا أنا وفاطمة يربت على وجناتنا ويعطينا نقودا فضية. مبالغ باهظة تراكمت لدينا في ليلة واحدة لم نحصل على مثلها قط حتى في الأعياد. في الصباح جاءت جارتنا وأخذتني أنا وفاطمة إلى جيران لنا في الطابق الأخير من العمارة وقالت: «استنوا هنا». نظرت إلى فاطمة فلم أجدها تقاوم فانصعت لاستسلامها. لم يكن هؤلاء الجيران من أصدقائنا لكنهم تعاملوا معنا بشفقة بالغة. قبضت نفسي وقلت لفاطمة بصوت عال: «عاوزة أنزل عند ماما»، قالت بحزم: «اسكتي». بلغ مسامعنا صوت بكاء فخرج الجميع إلى الشرفة ونظرت من أعلى ووجدت شرفة بيتنا غاصة بالنساء اللاتي يلبسن السواد، لم أتبين ماما بينهن وكان يقيني أنها لا بد بالداخل لا تزال إلى جوار أبي الذي ما زلت لا أفهم سوى أنه نائم غير أنه سيظل نائما «على طول» كما قالت لي فاطمة. أشار الجيران وقالوا: «أهو أهو...أهو..أهو» وأخذوا يبكون وهم ينظرون إلينا بإشفاق. كانوا يشيرون إلى نعش عليه طربوش كتلك النعوش التي كنت أراها أحيانا بالطريق. قالت لي فاطمة هامسة: «أهو بابا...»، أخذت أبحث عن بابا حيث أشارت ولم أر سوى ذلك النعش «أبو طربوش»، ولاحظت أن فاطمة تشعر بالفخر لأنها ابنة صاحب هذا الموكب الذي يشد انتباه الجميع ويجذب إلينا الأنظار. اختفى الموكب ودخلنا من الشرفة وقالت لي فاطمة: «تعالي». من دون استئذان أحد هبطنا الدرج ودخلنا بيتنا وكانت أمي وشقيقتنا الكبرى تبكيان بشدة وحولهما النساء، وغرفة أبي يجلس فيها المقرئون والسرير خال. قالت لي فاطمة: «أحضري نقودك وتعالي». أحضرت العلبة المليئة بالقطع الفضية وسرت وراءها وهي تقودني إلى مطلع الشارع حيث يجلس الشحاذ العجوز الذي اعتدنا أن نراه يعلو بالدعاء لكل من يعطيه مليما أو مليمين. قالت فاطمة بجدية: «نعطيه ونطلب الدعاء لبابا». أذهلتني الفكرة وقلت لها: «عشان احنا اللي موتنا بابا يا فاطمة؟».

تقدمت فاطمة للشحاذ وأعطته قطعة فضية فكاد الشحاذ يجن وأخذ يصيح بالدعاء. تقدمت بعدها وأعطيته فضية أكبر، فأصبح الدعاء هتافا. استمر المشهد: تتقدم فاطمة وتعطي وأتقدم بعدها وأعطي حتى نفدت القطع الفضية كلها وكاد الشحاذ يهلك من الدعاء والدهشة والفرح. نظرت إلي ونظرت إليها وقد استبد بنا الحماس وجيشان العطاء في سبيل أبينا واستغفارا لذنبنا بسبب لعب الحجلة. بإحساس متألق بالرغبة في المزيد من العطاء قلت لفاطمة: «ياللا نلم له أعقاب السجائر». ترددت فاطمة وهي تراني متجهة إلى الكوز الذي وضعه الشحاذ إلى جواره. أمسكت بالكوز الصدئ وقلت لفاطمة استحثها: «حرام عجوز مش قادر يمشي يلم». أدرت عيني متنقلة على طول الرصيف أنحني وألتقط كل عقب سيجارة أجده وأضعه في الكوز والشحاذ لا يكف عن الدعاء وقد تهدج صوته: «كتر خيركو ...كفاية كده»!

لا أدري كم استغرقنا من الوقت ونحن منغمستان في طقوس التوبة تلك التي هدانا إليها شعورنا الطفولي، لكننا توقفنا متزلزلتين أمام زعقة زاجرة هبطت فوق رأسينا: «بتعملو إيييييييه؟!!». وإذا بابن عمنا الكبير الذي تعودنا أن يدللنا يتطاير الشرر من عينيه: «إيه ده؟ بتلموا سبارس؟!».

كان معنى المظهر الخارجي لأدائنا هو: «لسه جنازة أبوهم ماشية وهم بيلموا سبارس». لكن الحقيقة كانت نقيض هذا التصور البشع: إذ كان جوهر المعنى، خلف ذلك الشكل السطحي الخارجي، تضرعا متفانيا وابتهالا في رجاء الله العفو والسماح!