الفقراء لا يأكلون الجرجير!

TT

أرجوك عزيزي القارئ أن لا تصدق ما جاء في العنوان على أنه ينطبق على الفقراء في بلادنا فهم يأكلون الجرجير كثيرا لأنه رخيص من ناحية، ويصلح لأنواع كثيرة من الأكل، وفوق ذلك فإن هناك اعتقادا راسخا لدى الرجال أن له فوائد جنسية محققة. ولكن الحال ليس كذلك في أمريكا حيث أن الأطباق التي تحتوي على الجرجير في المطاعم الإيطالية عادة ما تكون متميزة في الطعم، وبالطبع في السعر أيضا. ولم يكن كل ذلك مهما حتى دخل هذا النوع من الخضر إلى قلب السياسة الأمريكية حينما قام المرشح الديمقراطي ـ باراك حسن أوباما ـ في محادثة له مع جماعة من مزارعي ولاية أيوا ـ حيث تجرى أول الانتخابات التمهيدية ـ إلى أن أسعار الجرجيرArugula قد ارتفعت كثيرا في «السوبر ماركت». الإشارة كانت بالطبع إلى أن الأسعار في عهد بوش قد ارتفعت، ومنها يفهم أيضا أن السيد أوباما شخصية عادية مثله مثل كل الشخصيات العادية التي تتابع الأسعار في المحلات العامة بما فيها حتى أسعار الجرجير. ولكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للمستمعين الذين لم يعرفوا معنى الكلمة التي أشار لها صاحبنا، وما أن انتهى اللقاء حتى جرى الجميع نحو القواميس لكي يتعرفوا ربما لأول مرة في حياتهم على هذه السلعة العجيبة التي يعرفها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي هذه المعرفة الوثيقة حتى يستشهد بها وهو يستعد للانتخابات الرئاسية.

ومن المرجح تماما أن هذه الحادثة الخاصة بالجرجير سوف تنسى بعد أن تحتدم الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد أن تكثر التصريحات والتفاصيل، وسواء كانت الانتخابات هي التمهيدية داخل الأحزاب لاختيار مرشح منها للرئاسة أو الأصلية بين المرشحين، فإن المؤكد أن مجلة «النيوزويك» الأمريكية وجدتها من الأهمية بحيث ذكرتها في عددها الأخير عند متابعة ما يجري في معسكرات المرشحين للرئاسة. ومن بينهم، وفي المعسكر الديمقراطي، فإن شخصية أوباما أصبحت بالغة الإثارة حيث قدم للساحة السياسية الأمريكية وجبة شهية من التناقضات التي تجعل السياسة الأمريكية أكثر سخونة مما هي عليه. فصاحبنا هو الأمريكي ـ الأفريقي (أي الأسود) الوحيد في مجلس الشيوخ الأمريكي، ولكنه ليس مثل القس جيسي جاكسون الذي سبقه إلى ترشيحات الرئاسة في الحزب الديمقراطي والذي كان أفريقيا صافيا أبا وأما، بينما أوباما من أب كيني وأم أمريكية ـ بيضاء ـ اجتمعا سويا في واحدة من جامعات هاواي حيث ولد باراك ـ 4 أغسطس 1961 ـ وبعدها انفصلا لكي تتزوج الأم من طالب إندونيسي أخذ باراك وأمه إلى إندونيسيا لكي يعيش في مجتمع مسلم لمدة أربع سنوات. وبعدها عاد باراك إلى هاواي مرة أخرى لكي يعيش مع جده وجدته لأمه وفي مجتمع أبيض تماما ينتمي إلى شرائح عليا من المجتمع كانت من السعة بحيث كانت قادرة على إرسال رجلنا إلى جامعة كولومبيا الشهيرة ومن بعدها يحصل على الدكتوراه في القانون الدستورى من جامعة هارفارد الشهيرة التي لا يغشاها ولا يقدر على طائلتها إلا من كان على قدرة مالية طائلة أو علمية فذة أو كلاهما. وعلى أى الأحوال فقد كان لدى أوباما من المؤهلات ما جعله قادرا على الدخول إلى مجلس الشيوخ في ولاية الينوى (1997 إلى 2004) حتى دخل إلى مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2005 وقبل أن يمر عامين كان في مقدمة المرشحين الديمقراطيين لانتخابات الرئاسة الأمريكية.

أمام هذه الخلفية المتميزة اجتماعيا وتعليميا وسياسيا جاء تعليق أوباما حول الجرجير لكي لا يمر مرور الكرام، فقد أخذه الإعلاميون والسياسيون الأمريكيون لكي يشرحوه تشريحا ويربطوه ربطا بالحياة السابقة واللاحقة للرجل المرشح. فقد بدا أن الرجل عرف الجرجير ليس من قبيل الصدفة، وإنما لأنه ينتمى إلى الطبقات الأمريكية العالية مالا وتعليما، أو ما يعرفون بجماعة «النبيذ» في أمريكا حيث يجلس المترفون ساعة العشاء يحتسون النبيذ وبعدها يدخنون السيجار. وكان تصريح الجرجير كافيا لكي تعلن منظمات للأمريكيين الأفارقة أن ذلك يؤكد على تقديراتها السابقة أن لون أوباما لا يكفي لتأييده لأنه على الأرجح لا ينتمي إلى الفقراء أو إلى السود بل أنه من الممكن أن يكون خادما جيدا ممتنا في بلاط الأغنياء والبيض. ومن المدهش أن مجلة «النيوزويك» صنفت أوباما ضمن هذه الجماعة بينما وضعت هيلاري كلينتون ـ المحامية اللامعة وخريجة كبريات الجامعات الأمريكية وحرم رئيس سابق وسيدة أولى لمدة ثماني سنوات ـ ضمن جماعة «البيرة» الأمريكية حيث توجد الطبقات العاملة والأقل دخلا في المجتمع. وهذا النوع من التصنيف جديد تماما على الساحة الأمريكية، حيث يوجد الأسود مع الأغنياء والمحظوظين، بينما يوجد الأبيض ـ أو البيضاء في هذه الحالة ـ ضمن الفقراء أو الأقل حظا.

لقد دخل باراك حسن أوباما إلى سباق الرئاسة الأمريكي دخول الفاتحين لأنه كان يقدم «خلطة» أمريكية جديدة تماما، ربما كان أول من مثلها لاعب الجولف الأمريكي «تايجر وود» الذي اكتسب صيتا ذائعا ومالا وفيرا ليس فقط من مهارته كلاعب وإنما أيضا من «الخلطة» الآسيوية الأفريقية الأمريكية التي قدمها، حتى صار من أكثر الرياضيين شهرة وأوسعهم جاها ومالا. ولكن عالم السياسة ليس كعالم الجولف والرياضة، فأمريكا المولعة بالتنوع والاختلاف وألوان قوس القزح توجد فيها كثرة من المحافظين الذين يجدون تسليم السياسة الأمريكية والبيت الأبيض تحديدا لشخص أسود أو لامرأة من المغامرات غير المأمونة. وبالطبع فإنه لا يوجد أحد في الولايات المتحدة سوف يكون على استعداد للاعتراف بهذه الحقيقة التي تجعله من «المتعصبين»، ولكنه من المؤكد أن اللون سوف يكون عالقا في الصورة ليس فقط بالنسبة للبيض، وهم لا يزالوا أكثرية، وإنما أيضا بالنسبة لأصحاب البشرة السمراء الذين فرقوا دائما ما بين عبيد المزارع، وعبيد البيوت. وبينما كان الأولون الذين عاشوا تحت الشمس الحارقة هم الذين ثاروا على العبودية ورفضوها، فإن الآخرين هم الذين وقفوا مع الأسياد في كثير من الأحوال، نتيجة الفتات التي كانوا يحصلون عليها والظل الذي عاشوا تحته. هؤلاء وهؤلاء سوف يستمرون في فحص وتحليل كل كلمة يقولها أوباما، وسوف يردون كل شيء لأصله وتاريخه، ويقارنون ويراجعون، ويفعلون ذلك مع كل المرشحين حتى يقول الشعب الأمريكي كلمته في نوفمبر 2008.

القضية هنا بالطبع ليست حول الجرجير وفاعليته ودوره في السياسة، وإنما كيف تدور الآلة الديمقراطية الضخمة لكي تفرز وتصنف وتحدد اختيارات كبرى بين جماعات وفرق. وحتى يحدث ذلك فلا بد للمرشح أن يتكلم، ويتكلم كثيرا، ويكشف، ويكشف كثيرا، ومن هذا وذاك تتدفق المعلومات عن الشخص وقدراته وقت الأزمات، واختياراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالانتخابات العامة ليست نوعا من الرياضة القومية تجري ممارستها كل أربع سنوات على طريقة كأس العالم لكرة القدم والدورات الأولمبية، وإنما هي المسار الذي سوف تسير فيه أمة خلال السنوات الأربع التالية. وعندما جاءت فرصة لمناقشة موضوع هذا المقال مع الصديق الدكتور مأمون فندي عبر الهاتف قال إن القضية ليست ماذا يأكل المرشحين في الولايات المتحدة، وإنما هي ماذا يأكل ويشرب القادة والزعماء العرب على أساس أن المأكل والمشرب والمسكن تعبر في النهاية عن ذوق ومذاق ورؤية للعالم. ولكن بعد أن انتهت المكالمة تذكرت أن مثل ذلك يصدق فقط على «مرشحين» أما من كانوا قادة وزعماء بفعل الأقدار، فإن ذلك قصة أخرى تماما!.