من الذي كان يضطهد من؟

TT

جاءني كتيب مشوق لا تزيد صفحاته عن العشرين، عنوانه: «التراث العمراني والمعماري لمدينة الإسكندرية»، تأليف الأستاذ الدكتور عباس يحيى، رئيس قسم الهندسة المعمارية والتصميم البيئي بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، وأمين عام جمعية أصدقاء البيئة بالإسكندرية. حبي لمدينة ميلادي في محرم بك، التي عشت بها السنوات الأولى الستة من مبتدأ حياتي، أمدني بالطاقة الكافية للإمساك بالكتيب، جميل الطباعة والتنسيق والمزين بالصور المثيرة للحنين، وما كدت أبدأ في قراءتي حتى شدتني لغته المختصرة، المختزلة للتفاصيل، والمحددة نحو الهدف، البعيدة عن الزخرف والتكرار مع جدية باسمة، ودقة أمينة، لغة تعجبني. شمول سريع يعرف بالخريطة المعمارية للاسكندرية منذ مولدها قبل أن يعيد الإسكندر بناءها وتسمى باسمه، إذ أن الأمر، كما يقول الدكتور عباس يحيى، «الثابت أنه في هذا المكان كان يوجد بلدة فرعونية مهمة منذ عصر الفراعنة وهي راقودة.. أو رع قدت». تستعرض «دراسة» دكتور عباس يحيى مراحل ازدهار وأفول الحركة المعمارية بالإسكندرية، وحين يصل إلى إنجازات محمد علي، التي بدأت حين «دانت له الإسكندرية عام 1807» و«أدرك أهمية هذه المدينة»، نعرف سر امتلائها بالأجانب، فقد استقدمهم حضرته «وكان يمنحهم الأراضي لتشجيعهم على البقاء.. ». ويذكر دكتور عباس يحيى جملة توقفت أمامها تقول: انه في عام 1920 وفد كثير من اليونانيين «هربا من الاضطهاد التركي ووجدوا في الإسكندرية الحماية والأمان والثروة..»، والذي أعرفه عموما، ويشهد عليه الفنان عصمت داوستاشي بذكره ما حدث لجده الهارب من كريت لاجئا إلى الإسكندرية، أن المذابح اليونانية ضد مسلمي كريت دفعت الكثير من هؤلاء المسلمين الكرتلية والأتراك إلى الهرب من الاضطهاد اليوناني واللجوء إلى الإسكندرية عام 1920 بالذات، فمن الذي كان يضطهد من؟ إذا كان الفريقان قد تشاجرا فلماذا نذكر الطرف اليوناني بصفته الضحية وحده؟ ولقد ظل اليوناني المهاجر إلى الإسكندرية «خواجة»، رغم حصوله على الجنسية المصرية، بينما ذاب المهاجرون اللاجئون من الكرتلية وغيرهم في الدماء المصرية، واندمجوا تماما في نسيجها الوطني، فلا تكاد تميزهم إلا بآثار ملامح وراثية تنم عن أصول بها لمسات من الوسامة التي يفضلها المصريون. الذي أدهشني كذلك معرفة أن ماريو روسي، المعماري الإيطالي الشهير، هو الذي صمم حرملك قصر المنتزه، وجامع المرسي أبو العباس، وجامع القائد إبراهيم، فأين كان المعماريون العرب أولاد البلد؟ هل تقاعسوا أم تم حرمانهم عمدا من المشاركة؟ تساؤلات تستدعي النكد. لا داعي لها الآن، فيجب أن أعترف أن هذا الكتيب تأليف دكتور عباس يحيى شرح صدري بفرحة المعرفة، أيا كانت، وبفرحة ندائه النبيل من أجل: «التعريف بالتاريخ المعماري والعمراني لكل من الإسكندرية ورشيد وسيوة..» و«.. نشر الوعي لدى الرأي العام وإثارة اهتمام المواطنين بأهمية الحفاظ على التراث... وووو.. إلخ».

لا شك أن هذا الكتيب الذي استطاع أن يثير اهتمامي قادر على إثارة اهتمام الكافة.