عودة من شاطئ المحيط

TT

كانت الندوة الاخيرة في منتدى أصيلة بالمغرب حول: المثقفون العرب والأصولية. وكانت ندوة ثرية بما تضمنته من أفكار وآراء متنوعة رغم شكوى البعض من أن التمثيل السلفي لم يكن بالوزن الذي يقابل تمثيل المثقفين الذين اختلفت مشاربهم وعبرت آراؤهم عن احترام شديد وعميق للدين مع رفض استغلاله لفرض أنماط من الحياة والفكر لا تتفق مع جوهره ومع ضرورات الحياة العصرية التي لا تتعارض مع دين يدعو الى التطور والفكر والاستزادة من العلم بالبحث عنه ولو في الصين وفق ما جاء في حديث نبوي. وقد علمت على أية حال أن دعوات وجهت الى بعض السلفيين ولكن الكثيرين منهم اعتذروا. وعلى أية حال فلقد كان النقاش ثرياً وعميقاً وتناول أيضاً السلفية في الأديان الأخرى وكذلك في الأيديولوجيات باعتبارها كلها حنيناً الى الماضي قد يعوق التحرك نحو المستقبل.

وعلى الرغم من إقراري بأني بالقطع لست خبيراً فقد أكدت حقي في أن أعبر عن رأيي وموقفي على النحو التالي:

1- إني أود أن أسجل رأيي كمتلق لأحاديث وفتاوى تنقلها لنا الفضائيات ووسائل الإعلام حول الدين، وبعضها فتاوى تثير في تقديري الكثير من البلبلة واللبس الذي يزيد من حالة القلق التي يشعر بها الإنسان العادي بالنسبة للحياة الدنيا والآخرة وتثير الفتنة.

2- إن السلفية موجودة في كل الأديان وكل الأيديولوجيات، وأنا أتحدث عن السلفية في الإسلام من دون التطرق الى ما أثاره البعض حول السلف الصالح أو السلف غير الصالح. ومفهومي لها أنها احترام للماضي باعتباره تراثاً نعتز به ولكننا لا نبقى أسرى له. فالزمن غير الزمن، والتطور مستمر، وعلى الفكر أن يتماشى معه مع عدم المساس بالثوابت. وإذا كان الإسلام مثلاً في عهد الرسول ديناً ودولة فإن هذا لا ينطبق إلا على ذلك العهد حين كان الرسول يتلقى الوحي وينقله وفي نفس الوقت يقود المسلمين لحماية الرسالة ممن كانوا يريدون وأدها في مهدها، أما فيما تلى ذلك فالأمر مختلف.

3- وأشرت الى نقطتين أولاهما تأكيد الرسول أن أهل مكة أدرى بشعابها وهو حديث يضع في تقديري مبدأ أساسياً بعدم الخلط بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وكذلك فقد رأينا في عهد الخلفاء الراشدين وقفاً لتطبيق الحدود مراعاة للظروف.

4- وخلصت من ذلك الى رأي ـ أعرف أني به قد أكون أسير على الجمر، وأن آخرين قد تكون لهم حجج وجيهة للاعتراض ـ إن إعمال العقل ومراعاة الظروف والزمان والمكان يتوافق مع دعوة الدين الى الفكر وتدبر الأمور وهو ما دعت اليه آيات كثيرة من القرآن الكريم. وهذا الرأي يتفق مع القول بأن الدين يصلح لكل زمان ومكان، وهذا يقتضي ضرورة التأقلم مع التطور، إذ أن دائرة المعرفة تتسع ولا يصح أن يتخلف مفهومنا للدين عنها وإلا فإننا نسيء اليه. (ولعلي أشير هنا الى مثل لم أتناوله في حديثي وهو رفض الكنيسة لفكرة أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس الى درجة قتل من اكتشف ذلك).

5- إن الدين في تقديري المتواضع موجه الى الانسان الفرد باعتباره الخلية الأساسية للجماعة. وبالتالي فهو يدعو الإنسان إلى كل ما يجعله إنساناً صالحاً وبالتالي مواطناً صالحاً يساهم في إدارة أمور الدولة وفقاً لمقتضيات الظروف في إطار الفضائل التي يدعو اليها القرآن الكريم، ولذلك فإني أتفق مع القائلين بأن الإسلام لم يدع الى نظام حكم معين، وأن السلفيين الذين يتمسكون بالخلافة وغيرها من أنظمة الحكم التي تجاوزها التاريخ، لا يتفقون مع جوهر الدين في تقديري المتواضع، تماماً مثل تمسكهم غير المنطقي ببعض الأزياء ورفض بعض مظاهر التطور العلمي بينما يقبلون البعض الآخر.

6- وخلصت من ذلك الى أن الالتزام بالدين التزام شخصي، وهذا صحيح بالنسبة لجميع الأديان، فالأحزاب المسيحية الديمقراطية ـ التي نشأت في ظروف سياسية معينة لمحاربة الشيوعية ـ لا تلتزم حرفياً بتعاليم الكنيسة أو البابا في عملها السياسي، وإن كان هناك التزام فردي من جانب المؤمنين بتلك التعاليم. وقد رأينا ذلك فيما صدر من قوانين في دول كاثوليكية حول الطلاق مثلاً. وإذا كان التشبيه طبعاً مع الفارق فإني رأيت أن أضرب مثلاً.

7- والخلاصة أن جمود الفكر يسيء الى الدين، وأن التطور مع الظروف في إطار الثوابت هو الذي يجعل الدين أقوى وأقدر على مواجهة ما يتعرض له أحياناً من هجوم ينبع كثيراً من سوء نيات يجب أن نسد أمامها الطريق، ويستند أحياناً الى تصرفات هي بالقطع مخالفة لجوهر الدين وتسيء إليه.

8- أنا أعرف أني قد أكون مشيت في حقل ألغام أو في طريق الشوك ولكن هذا على أية حال رأيي واجتهادي الذي أستحق عنه ثواباً أو ثوابين.

ثانياً: لا أستطيع أن أترك القلم، بعد أن عدت من رحلة الفكر والفن والراحة في أصيلة، من دون أن أعود للكتابة الى ما كان في كل الظروف يشغلني من أمور أمتنا التي تعاني من دون أن نرى نهاية قريبة لتلك المعاناة. فالفلسطينيون ما زالوا يتنازعون، بينما إسرائيل لا تفرق في عدوانها بين الضفة والقطاع، وبينما الحوار مقطوع بين القوى الوطنية التي مهما اختلفت أيديولوجياتها فإنها في سفينة واحدة تغرق بهم جميعاً أو ينجون بها جميعاً. ومهما كان الحديث عن تدخلات خارجية للوقيعة أو التحريض فإن ذلك لا يعفي الفلسطينيين أنفسهم من ذنب كل ما يجري لا نفرق بين طرف أو آخر مهما كان الرأي في وزن أخطاء أو خطايا ذلك الفريق أو الآخر. ولست أفهم كيف يتصور البعض ـ فلسطينيون أو غيرهم ـ أنه يمكن أن يعقد اجتماع دولي أو مؤتمر يستطيع أن يخرج بنتائج إيجابية تتفق مع أهدافنا وحقوقنا، بينما الفلسطينيون شتى تتصارع منظماتهم وأجنحتهم.

وما زال العراق يعاني من آثار احتلال أمريكي أتى معه بشرور تكاد تفوق شرور نظام بائد أساء للأمة العربية إساءة بالغة فلما انقشع بدا كأن ما حصل محله في مثل سواده. لقد فكك الأمريكيون الدولة، وشجعوا النعرات الطائفية وأشعلوا نيرانها، وادعوا أنهم بذلك يأتون بديمقراطية مثالية يريدون فرضها على المنطقة كلها، فإذا النار تحرقهم هم أيضاً ويبحثون الآن عن وسيلة الهروب منها بالقاء المسؤولية على غيرهم، تارة الأمم المتحدة وتارة جيران العراق، وينقلبون على من أتى بهم الى الحكم، ويساندون فريقاً ضد فريق فيزيدون الفتنة. لقد دخلوا الى أرض لا يعرفونها، وتعاملوا مع شعب لا يفهمونه، وتصوروا أموراً ثبت أنها كلها هراء في هراء وسراب في سراب، فكانت النتيجة أنهم غرقوا وغرق معهم كثيرون، ولا يجدون حلاً إلا بزيادة عدد الغرقى.

وما زلت أقول إن هناك مسؤولية عربية، في مصالحة الفلسطينيين، ومصالحة العراقيين استكمالاً لجهود بذلت ولا نعرف كيف ولماذا ومتى فشلت، ولكن من حقنا أن نطالب باستئنافها وتنشيطها مهما كانت الصعوبات والعقبات.