تشبعوا بالأنانية الوطنية.. واقفزوا من السفينة الجانحة للغرق

TT

«بالتأكيد هناك مصير بائس ينتظرك إذا أنت اقترفت من الأخطاء القدر الكافي لدفعك إلى ذلك المصير»... حكمة أمريكية.

وتمثلا ناجزا لهذه الحكمة الأمريكية نقول: إنهم يتعجبون ويندهشون مما يجري في العراق!!.. ونحن نتعجب من عجبهم!!.. ماذا ينتظر من يقترف من الأخطاء الوبيلة هذا القدر الهائل غير هذا المصير البائس؟.. هل تتغير سنن الكون والحياة من أجل حفنة سياسية في واشنطن: لا تسمع ولا ترى ولا تعقل؟!. ماذا كانوا يتوقعون من آثار ونتائج لغزوٍ انبنى على كذبة.. ولإدارة للحرب وما بعدها: دمرت بلدا كاملا: دمرته بتفكيك جيشه، وهدم مؤسساته كافة وسحق بنيته التحتية والفوقية ونهب نفطه وتمزيق نسيجه الاجتماعي، وقتل أكثر من مليون من أبنائه، وتشريد أكثر من أربعة ملايين عراقي، وزيادة أعداد العاطلين عن العمل بنسبة 890%، وتهيئة المسرح ـ دستوريا وواقعيا ـ لتفتيت وحدته الجغرافية... شاهت الوجوه!!.. ماذا كانوا يتوقعون غير هذا الذي يجري، بعد أن صنعوا بأيديهم، وعن عمد: أسباب ما يجري ومقدماته ومناخاته؟.. ألم يقل الحكيم الأمريكي: «بالتأكيد هناك مصير بائس ينتظرك إذا أنت اقترفت من الأخطاء القدر الكافي لدفعك الى ذلك المصير»؟.. انها حكمة تنطبق على أفعال الادارة الامريكية الحالية التي اقترفت من الاخطاء ما أوردها هذا المصير.. وما أورد غيرها أيضا من العميان الذين مشوا خلفها ـ هنا وهناك وهنالك ـ في ذات الطريق المؤدي الى المصير البائس، فارتكبوا بذلك خطايا ثلاثا مركبة: خطيئة الجبن عن النصح الواجب بادئ ذي بدء.. وخطيئة الاستمرار في المداهنة.. وخطيئة المشي أو الهرولة وراء عميان.

ومما يزيد المشهد تفجعا وأسى: أن قائد هذه القافلة التائهة لا يزال يصر على أن قافلته تمشي في الطريق الصحيح الموصل الى الغايات المنشودة.. ففي خطاب له أمام المحاربين القدماء ـ يوم الاربعاء الماضي ـ: دان الانسحاب الامريكي من فيتنام «!!!» على حين ان هناك اجماعا امريكيا على ان ذلك الانسحاب وفر للولايات المتحدة (عمرا جديدا) إذ أنقذها من مستنقع مميت ـ بالمعنى البيولوجي والاستراتيجي للتعبير ـ .. كما نوه بالتجربة الامريكية في اليابان، وكأن الطريق الى جلب الديمقراطية هو (القصف النووي) لمدن يابانية. ولكنه تورط في هذه المفارقة المتوحشة بسبب اسقاط ظل تجربة أمريكا في اليابان على تجربة ادارته في العراق. بمعنى انه يريد أن يقول: لقد دمرنا العراق.. نعم.. لكن هذا الدمار يهون بجانب (انتصار الديمقراطية)، واستدعوا النموذج الياباني لتفهموا يا .... وفي السياق ضرب مثلاً بأن المرأة اليابانية كانت مكبلة فأصبحت اليوم وزيرة للدفاع.. والتهافت الفكري واضح في المثل. ففي بلاد كثيرة منها سيرلانكا ـ مثلا ـ أصبحت المرأة أكثر من وزيرة دفاع. ولكنه أراد بالمثل: العالم العربي الاسلامي. فكما حررت امريكا المرأة اليابانية من الاغلال، فهي اليوم تعمل على تحرير المرأة في العالم الاسلامي من الأغلال ايضا، ولا سيما انه عقد مشابهة بين ايدلوجية اليابان التي كانت، والايدلوجيات السائدة في العالم العربي الاسلامي اليوم (وكثيرا ما يطلق مصطلح ايدلوجيا على العقائد والمصادر الدينية).. ثم قال ـ في الخطاب ذاته ـ: «بعد أحداث 11 سبتمبر وصفت الأحداث بأنها صراع حضارات.. وأنا أقول صراع: من أجل الحضارات».. وهذا كلام جد خطير من حيث انه يقر بـ (صراع الحضارات) ويزيده تأصيلا بمفهوم بأنه صراع من أجل الحضارات.. وهذا مفهوم ينقل مصطلح صراع الحضارات من الدائرة الفكرية أو الفلسفية الى دائرة (التبني الغائي)، أي الصراع من أجل النموذج الحضاري، أو (الجهاد في سبيل قيم الحضارة الغربية ضد أعدائها): وفق المقولة المكررة دوماً.

ومما يدخل في سياق الركض في (التيه) ـ كذلك ـ: المواظبة على (التخبط) في كل شيء: في التفاصيل.. والتكتيك.. والترقيع.. وعلى نحو يجر مزيدا من الكوارث على امريكا وعلى الاخرين.. مثال ذلك: وجه الرجل نقدا شديدا ـ يشبه النعي ـ للحكومة العراقية الراهنة ولرئيسها ـ بوجه خاص ـ.. ولم تمض ساعات حتى جدد ثقته بها.. ولم تمض ساعات على تجديد الثقة بها حتى اصدرت 16 وكالة استخبارات امريكية تقريرا يؤكد ان هذه الحكومة لن تنجح، وان الفشل مصيرها.. وقبيل ذلك صدرت دراسات (موحى بها في الغالب) تقول: «ان المخرج من الازمة العراقية يكمن ـ فحسب ـ في العثور على (دكتاتور جديد) يضبط الاحوال السائبة في العراق، ويضمن مصالح الولايات المتحدة».. في الوقت نفسه كانت هذه الادارة نفسها (تلح) على دول المنطقة لأجل دعم الحكومة العراقية بكل وسيلة! (العبرة العاجلة هاهنا هي: التروي الطويل قبل الاستجابة لأي رغبة امريكية فهي رغبات المتخبط العجل التائه التي لا تصدر عن حساب صحيح ولا تقدير عقلاني واقعي).

والخبط في التيه يستمر على الرغم من النذر المتوالية التي تشير الى مخاطر ضروس تتعرض لها الولايات المتحدة على كل مستوى تقريبا:

1 ـ اطلق كبير مفتشي الحكومة الامريكية نذيرا يكفي ـ وحده ـ للانخراط الجاد في اصلاح المسيرة. لقد قال المفتش ديفيد وركر (الممسك بالملف الوطني كله)..: «ان الولايات المتحدة تقف الآن على حافة الهاوية وذلك في صورة سياسات وممارسات لا تطيقها البلاد وهي سياسات وممارسات تسببت في العجز الشديد في الميزانية، والنقص الحاد في الرعاية الصحية او تزايد الالتزامات العسكرية الخارجية مما يهدد باندلاع ازمة طاحنة.. ان وضع البلاد يشبه وضع روما القديمة قبل احتراقها وانهيارها.. ومن أوجه التشابه والعوامل المشتركة: انحدار القيم الاخلاقية.. وفساد النشاط السياسي. والثقة المفرطة بالنفس الى درجة الغرور.. والمبالغة في نشر القوات في الاراضي الاجنبية.. والتبذير في انفاق المال العام من قبل الحكومة المركزية».. ثم قال: «ان هناك سياسات خاطئة تمارسها الحكومة في مجالات التعليم والطاقة والبيئة والعراق ولذا فان الولايات المتحدة تحتاج الى مئات المليارات من الدولارات لاعادة تأهيل وتحديث بنيتها التحتية: من الطرقات والمطارات الى المياه وانظمة الصرف الصحي والجسور، واني اعتبر انهيار الجسر في مينيا بولس جرس انذار. ولقد سلطت الضوء من قبل على عدد من هذه القضايا وأريد الآن رفع الصوت عاليا لخطورة الموقف وشدة الحساسية ولارتباط هذه القضايا باسماء في الحكومة».

2 ـ أجرت مؤسسة (أيبسوس) استطلاعا موسعا في تسع دول اوروبية وغير اوروبية هي: بريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا وكندا والمكسيك وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة ذاتها.. وكان موضوع الاستطلاع هو (أهلية الولايات المتحدة لنشر الديمقراطية في العالم).. فماذا كانت نتيجة الاستطلاع؟.. في فرنسا رفض 84% ان تكون الادارة الامريكية مؤهلة لنشر الحرية والديمقراطية في العالم.. وفي المانيا نفى 80% الاهلية ذاتها.. وفي بريطانيا قال 70%: ان الولايات المتحدة غير قادرة على القيام بذلك لاسباب عديدة.. وفي الولايات المتحدة نفسها أكد 53% ان قيادة بلادهم غير مؤهلة لذلك.

3 ـ في دراسة علمية نوعية (شريحتها خبراء في مكافحة الإرهاب):

ثبت أن 84% من هؤلاء الخبراء يقطعون بأن خطط إدارة جورج دبليو بوش في مكافحة الإرهاب قد باءت بالفشل التام. وان أكثر من 90% من هؤلاء الخبراء ـ يجزمون بأن العالم قد أصبح أضعف أمنا، وأكثر خطرا في ظل هذه الخطط.

4 ـ برنت سكوكروفت جمهوري مخضرم ومفكر استراتيجي يُعتد برؤيته وحساباته، وقد كان مستشارا للأمن القومي للرئيس جورج بوش الأب.. هذا الرجل: غير المشكوك في وطنيته وعقله، أصدر نذرا صاعقة فقال: «إن مأساتنا في العراق دليل على العمى الاستراتيجي الذي تتمتع به هذه الإدارة. ها نحن اليوم في العراق، ونمتلك العراق، ولكن يجري صيدنا فيه. لقد نصحناهم قبل الحرب وقلنا لهم: سيُنظر إلينا كقوة محتلة في بلاد معادية، ولكنهم لم يسمعوا.. كيف يريد المحافظون الجدد جلب الديمقراطية إلى العراق عن طريق الغزو والضغط والقهر؟. لقد قيل: إن هذا جزء من الحرب على الإرهاب، إلا أن العراق أصبح بيئة واسعة تغذي الإرهاب وتدعمه».

ما هذا الركض المجنون نحو المصائر البائسة؟.. ان الوقت ليس وقت الفرحة بأحزان الآخرين (وهذا هو التعريف المختصر لكلمة الشماتة). فالحال والضمير لا يتسعان لهذه الصغائر.. وأن ينصلح حال أمريكا أحب إلينا من أن يفسد.. بيد ان الله جل ثناؤه أخبرنا بأن المسالك والمصائر مرتبطة بـ(الأعمال)، لا بالأماني: «ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به».

وإنه لعجب يقفوه عجب يتلوه عجب: هل يمكن لرئيس أو إدارة سياسية ان تدمر بلادها ـ ماديا ومعنويا ـ بهذه الطريقة؟.. على الرغم من كل شيء، فإننا نستبعد تعمد ذلك، وهو استبعاد ينشئ سؤالا عاجلا وطبيعيا: ما السبب.. ما العلة فيما يجري؟.. الغالب أو الراجح: أن السبب هو: تسليم شؤون الولايات المتحدة ومصائرها لمجموعات صهيونية أو متصهينة.. ولعله من حسن حظ الأميركيين ان هذه الحقيقة المرة بدأت تتكشف ويتكثف الضوء عليها.. مثال ذلك: كتاب ومقال.. اما الكتاب فهو (اللوبي الصهيوني والسياسة الخارجية الامريكية) لمؤلفيه: البروفيسور ستيفن وولت.. والبروفيسور جون مير شايمر. يقول الكتاب: «إن جماعات الضغط الصهيونية تصب أجندتها الخاصة في السياسة الخارجية الاميركية ومن ثم تصبح السياسة الخارجية للولايات المتحدة في خدمة سياسات وأهداف هذه الجماعات، الأمر الذي انزل اضرارا فادحة بالمصالح القومية للولايات المتحدة. والغريب أن هذه الجماعات تعمل على كبت كل صوت أميركي يجهر بهذه الحقيقة».. وأما المقال فهو بعنوان (آن الأوان لإعلان الاستقلال عن إسرائيل) للكاتب الامريكي: كريس هيدجز.. يقول الكاتب: «ان المستقبل لا يبشر بخير، ليس فقط لأن السياسة الخارجية الاسرائيلية لا تتوافق مع المصالح الأمريكية. بل لانها تلحق بها أضرارا بالغة.. إن اشعال حرب اقليمية ليس من مصلحة الولايات المتحدة، وربما ليس في مصلحة إسرائيل نفسها على المدى الطويل، ولكن الذين يمسكون بزمام الأمور مصممون على إشعالها باسم الحرية والديمقراطية لدفع سفينة الدولة الأمريكية نحو الانحدار. والسبب ان السياسة الخارجية الاميركية أصبحت ـ في ظل إدارة بوش ـ أكثر من امتداد للسياسة الخارجية لاسرائيل. ولذلك يجب ان يتم استقلال أمريكا عن إسرائيل».

قد لا يستطيع حكام المنطقة تغيير هذا (الواقع الأمريكي) المثقل بالمتاعب والمصائب، ولكنهم يستطيعون (ولو بضغط غريزة الانانية في البقاء): ان ينجوا بأنفسهم من هذه المحرقة أو المهلكة.. والنجاة مشروطة ـ عقلا ومصلحة وغريزة وأمنا ـ بالابتعاد الضروري عن هذه السفينة الأمريكية التي قرر أصحابها أنفسهم عدم إنقاذها.. ويكفي الاعتبار ـ مثلاً ـ بالأزمات الحادة التي يواجهها: برويز مشرف، ونوري المالكي.. أم أن الاعتبار ممنوع إلى أن ينشب الحريق داخل البيت أو في غرفة النوم؟!.

وهل من المناسب ان ندعو إلى مؤتمر اقليمي أو عالمي: تحمل اجندته بندا واحدا فحسب وهو: التحرر الشجاع والناجز من فكرة أو أسطورة: ان كل ما تراه أمريكا صحيح وصائب.. ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست (إلها). بل هي بشر من البشر الذين كتب عليهم الخطأ والصواب والاستقامة والانحراف.. واستحضار وقائع هذا المقال ومفاهيمه يصلح برهانا على حقيقة: ان هذه الجمهورية ترتكب اليوم من الأخطاء قدرا: يتعسها ويتعس من يمشي وراءها بغباوة وعمى وتصمم!!.. ولتنشيط الذاكرة يمكن استعادة الحكمة الأمريكية التي تصدرت هذه السطور.