مظاهرات البيئة.. وحاجات في نفس يعقوب!

TT

مظاهرة البيئة في هيثرو تثير التساؤلات حول الأجندة الخفية لمنظميها، رغم التعدد القوس قزقحي للتيارات المشتركة، وإخلاص عدد معتبر منهم لفكرة معالجة أسباب الاحتباس الحراري global warming.

هناك نواة مؤمنة تاريخيا بفكرة يوطوبوية بخير الانسانية، وتعتقد بمثالية وصفاء قلب كاهن بوذي، وروحانية شيوخ الصوفية، بإمكانية تغيير العالم عن طريق انارة أقسى القلوب ظلاما، بالاحتجاج الصامت والمسيرات الهادئة والصيام.

نشط اليوطوبيون منذ القرن 19 في المجتمعات الديموقراطية، خاصة بريطانيا، التي تقدس حرية التعبير، حيث يوفر البوليس الحماية لمسيرات تحرق دمية رئيس الحكومة. المسالمونpacifist movement تركوا بصماتهم على ضمير الأمة برفض الخدمة العسكرية، لتجنب ايذاء انسان آخر اسمه «العدو» مفضلين السجن ولافتات كـ«جبان» و«خائن» (مؤخرا صوت مجلس العموم بتفويض الملكة للعفو وإسقاط تهم الجبن والتهرب من الذود عن الوطن عنهم بعد مماتهم).

وهناك نباتيون وأشهرهم جورج برنارد شو (1865 ـ 1950) يرفضون ايذاء كائن حي، حتى لسد الجوع. وهناك من نزع سلاح الجيوش بإدارة الخد الايسر كرد على تلقيه الصفعة على الخد الأيمن. ففي الاربعينات شل اضراب عام في الهند حركة الامبراطورية البريطانية، ولاح النصر في الافق، لكن المهاتما غاندي (1869 ـ 1948)، امر بإنهاء الاضراب الذي دعا اليه اصلا، عندما رد متظاهرون في البنجاب على اعتداء البوليس بإشعال النار في المخفر ومصرع ثلاثة رجال شرطة. ورأى المهاتما ان شعبه لا يستحق الاستقلال حتى ينضج روحانيا، لأن النصر عبر العنف، مهما تضاءلت نسبته، سيزرع بذرة الشر في الأمة التي اراد ولادتها صافية الروح.

فهناك تركة ضخمة من الاحتجاجات السلمية في تاريخ الامبراطورية البريطانية، ورثتها اليوم هم النواة المخلصة في مظاهرة البيئة في هيثرو، وهي اقلية تستحق رفع القبعات احتراما.

المتطرفون يضرون دوما بقضيتهم، كإرهابيي حملة الدفاع عن حقوق الحيوان الذين وضعوا القنابل في المعامل البيولوجية، احتجاجا على استخدام الحيوانات في التجارب الطبية فأصابوا آدميين.

ونقيضا لكفاح المهاتما غاندي، هناك المنظمات التي افقدت شعوبها الاستقلال والأرض وتعاطف العالم بلجوئها للإرهاب.

الإرهابيون البيئيون بدورهم يستغلون براءة الاقلية المسالمة، وينسقون مع الفوضويين، واليساريين المتطرفين لتخريب المنشآت.

تراهم في لقاءات قمة الثماني، يريدون تقويض نظام السوق الحر الذي، ويا للمفارقة، يخلق الوفرة الاقتصادية، والنظام السياسي الديموقراطي الذي ضمن لهم التعليم والديموقراطية والتظاهر بحرية غير متاحة في الصين أو المجتمعات الاشتراكية الشمولية التي يدعون اليها، بينما يشغلون هذا الاسبوع البوليس، عن مهامه العادية، ناهيك عن حمايتنا من الارهابيين الذين يهددون حياة اطفالنا يوميا.

حملة نزع السلاح النوويCND الأحرف الأولى من Campaign for Nuclear Disarmament ولدت على أيدينا في جامعة لندن من نصف قرن، وضمت نواب برلمان (اصبحوا زعماء ووزراء) كمايكل فوت، وتوني بن وروي هاتسرلي، ورجال دين كالأسقف بروس كينت، ومفكرين كبرتراند راسل.

كنا أبرياء في مثاليتنا؛ واذكر سؤال الصحفيين اثناء مظاهرتنا الكبرى في عيد الفصح 1963 في ميدان الطرف الأغر «تتظاهرون لنزع سلاح بلدكم.. ومن يتظاهر في موسكو لنزع السلاح النووي من رؤوس الصواريخ الموجهة الى عاصمتكم لندن»؟

استنكرنا، بطيش الشباب، سؤال الصحفيين، وأدانهم الشيوعيون كأداة لتجار الحروب.

تحمس الشيوعيون، الذين اختطفوا المظاهرات وقتها، لنزع السلاح من جانب واحد فقط أي العالم الحر، لتتفوق الشيوعية، وهي النظام المثالي لطلاب الستينات المتمردين على جيل الرأسمالية.

الأجندة الخفية لمظاهرات هيثرو اليوم، والمواجهات القبيحة مع البوليس، وتعطيل حركة المرور والسفر، هي الحاق الخسائر الاقتصادية بشركات الخطوط الجوية والمطارات كرمز للعولمة التي يراها اليسار الطفولي امبريالية جديدة.

وإذا كانت النوايا بيئية فقط، فلماذا لا يحتجون على سياسات عمدة لندن اليساري المتطرف كين ليفنغستون، في عرقلته المرور، وتغيير نظام المواصلات بما يزيد تلوث بيئة العاصمة بعشرة اضعاف ما تفرزه حركة الطيران في هيثرو من غازات الكربون؟

ليفنغستون كذب في وعوده الانتخابية عام 2000 بتعميم وظيفة الكمساري التي كانت اختفت من بعض خطوط الباصات، فبعد انتخابه ألغى وظيفة الكمساري من بقية خطوط العاصمة.

اليوم يحصل السائق التذاكر الى جانب القيادة مما يزيد مدة وقوف الباص في كل محطة من 20 ثانية الى دقيقة، يدور خلالها المحرك، ووراء الباص طابور من السيارات تتدفق من محركاتها الغازات الملوثة للبيئة.

مدة تشغيل المحرك في رحلة الباص زادت من 50% الى 70%، ولتعويض الفارق الزمني، زاد عدد الباصات في كل خط بمعدل 40% دون أن يزيد مجموع الرحلات اليومية لخط الباص عن عام 2000.

الباصات الجديدة (استوردها ليفنغستون من المانيا والسويد بدلا من خلق فرص عمل في بلاده) يزيد ووزنها وحجمها وسعة محركاتها عن الباصات البريطانية التقليديةRout- master بـ45%.

وبديكتاتورية الشموليين وتحكمهم، تعمد ليفنغستون تضييق الشوارع، وغرس آلاف من إشارات مرور جديدة دون لزوم، معتقدا، بعناد اليساريين الذي يبلغ حد الغباء احيانا، ان تحويل رحلة السيارة الى عذاب لا يطاق ستجبر أصحابها على هجرها، لكن النتيجة هي زيادة تلوث البيئة.

لا يتظاهر البيئيون الجدد ضد ليفنغستون، لأن ممارساته جزء من اجندة اليسار العالمي (كاهدار الملايين من ضرائبنا على مهرجان يقيمه احتفالا بالذكرى الستين لثورة كاسترو في كوبا أو لاستضافة دعاة الارهاب والتطرف!). أما حصون اليسار الاعلامية العتيدة كالـ«بي.بي.سي» والغارديان والاندبندنت، فلم تواجه العمدة اليساري، ولو مرة، بسؤال واحد حول تأثير سياساته على بيئة العاصمة!

وظهرت افواج المنتفعين بموضة البيئة وركب الانتهازيون الموجة.

الساسة، لجمع أصوات الطبقات المتوسطة (التي يسهل استغلال شعورها العاطفي بالذنب تجاه العالم الثالث نتيجة نجاحها الاقتصادي)، ولفرض ضرائب جديدة، مما يزيد تكلفة السفر فيحرم الطبقات الفقيرة من السفر جوا ليصبح حكرا على الميسورين.

نجوم هوليوود والغناء استيقظت ضمائرهم البيئية فجاة لإظهار أنفسهم دعاة وأنبياء لعقيدة جديدة اسمها «البيئة» دخلها المعجبون افواجا، بينما لم نر نجما واحدا يهجر سيارته الفارهة ليركب تاكسي او يتنازل عن طائرته الخاصة او الهليكوبتر ليسافر بالقطار!

البيئة اصبحت «مولد وصاحبه غايب»؛ وكان في احتفالات الموالد في الريف من يدعي الطب وينادي للمارة: «شربة الحاج محمود.. تنزل الدود؛ وبلابيع الهند واليابان.. تخلي الشيوخ تغلب الصبيان» ويندس بين الناس معاونوه يقسمون بأن «بلابيعه» شفتهم من الامراض في المولد الماضي.

ظهرت «شربة الحاج محمود» البيئية في اشكال لجان البيئة الاستشارية، ومواقع تنصح السذج بكمية استهلاكهم من الكربون في كل رحلة بالطائرة بحسبة تشبه حسبة برما الشهيرة، ليعادلوها بشراء فلتر تنقية ماء لأسرة في بنغلاديش أو غرس شجرة، ونترك لذكاء القارئ الجهة التي ينصح الموقع بالشراء منها.

دعم الاتحاد الأوروبي لهذه المواقع، ورسوم الاستشارات الباهظة مصدرها بالطبع الضرائب التي تعصر من عرقنا.

المفارقة انه لو سرنا جميعا على الاقدام، وأكلنا الطعام نيئا، وعادت بريطانيا لما قبل الثورة الصناعية، فإن ما ستوفره من المحروقات بنهاية هذه العقد، ستستهلك الصين ضعفيه في 68 يوما فقط، بينما لا يتظاهر البيئيون امام سفارة الصين!