الأزمة العراقية .. والجهود الضائعة

TT

في مواجهة الوضع بالغ القتامة الذي يسود العراق الآن، أطلق البعض فكرة المؤتمر الدولي، هذا على الرغم من اعتماد مجلس الأمن في العاشر من آب/ أغسطس 2007 قرارا قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا لتوسيع ولاية بعثة الأمم المتحدة في العراق. حيث أن هذا القرار غير مقنع ولا يوفر أية إمكانية لتحقيق تغييرات حقيقية في العراق.

وهنا لا بد من التذكير بأن الرئيس الأمريكي بوش لم ينفك خلال السنوات الأربع الأخيرة من تكرار القول بضرورة المثابرة لإكمال المسيرة في العراق، هذا بينما يواصل العراق المعاناة من أزماته المتعددة، بل وينغمس فيها أكثر فاكثر.

إن قرار مجلس الأمن الأخير لم يفعل، في الحقيقة، غير أن وضع قائمة بمهمات الاستشارة والمساعدة للحكومة العراقية في المجالات الدستورية والسياسية والانتخابية والقضائية والاقتصادية والإنسانية وحقوق الإنسان واللاجئين، وهذه المهمات سبق وأن ساهمت بها بعثة الأمم المتحدة في العراق منذ عودتها للعراق في عام 2004 من دون أن يكون لها أي أثر يذكر وبما أضعف مصداقيتها ومصداقية العمل متعدد الأطراف في منطقة بالغة الهشاشة.

كما أن هذا القرار اعتمد في أجواء ما قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهي اجواء يسودها التوتر والضراوة، وفيها عوملت الأزمة العراقية، لسوء الحظ، كقضية داخلية تستخدم لأغراض الكسب الانتخابي. ولربما كان العنصر الوحيد الجديد في هذا القرار هو تكليف الأمم المتحدة بتسهيل جهود المصالحة الوطنية، ولكن القرار اشترط أن يتم ذلك بالتنسيق مع حكومة المالكي، وهي تبدو الآن حكومة مفككة أكثر من أي وقت مضى. هذه الحكومة سعت منذ أكثر من سنة لأن تكون حكومة وحدة وطنية وحكومة مصالحة وطنية، لكنها ببرنامجها وممارساتها لم تستطع، للأسف، أن تقنع أي عراقي، من الذين رفضوا المشاركة السياسية في ظل الاحتلال الأجنبي، بالانضمام الى هذه العملية. ليس هذا فحسب، بل إن المالكي فقد خلال هذه السنة الكثير من حلفائه من داخل العملية السياسية، وبدا غير قادر، إن لم يكن غير مؤهل، على تحقيق أي من أهداف حكومته.

واستنادا الى ما ورد أعلاه، يصعب على المرء أن يفهم كيف ستستطيع بعثة الأمم المتحدة أن تتفاوض مع العراقيين من كل الأطياف إذا كان عليها أن تنسق جميع جهودها مع رئيس وزراء قيادته موضع نزاع ليس مع المجموعات المسلحة فحسب بل وأيضا نصف الذين يشكلون حكومته.

إن المهمات التي كلفت بها الأمم المتحدة في قرار مجلس الأمن الجديد سوف تخلق كثيرا من علامات الاستفهام حول مدى ملائمتها وقدرتها على النجاح بل وحتى إمكانية تطبيقها. وهنا يبرز السؤال: هل أن الهدف النهائي للأمم المتحدة هو مساعدة شعب العراق على تجاوز محنته الطويلة القاسية وفق ما تمليه عليها صلاحياتها بحفظ السلم والأمن الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة، أم أن عليها مساعدة الإدارة الأمريكية الحالية على معالجة نتائج أخطاء حربها التي ازدرت منذ البداية بأهمّ قواعد النظام الدولي المتمثلة بالعمل متعدد الأطراف، والتي كانت تعتبر، حتى ذلك الوقت، الضمان الوحيد لتعزيز المسؤولية الجماعية في حفظ السلم والأمن الدوليين !

ومما فاقم الوضع أكثر هي الوقائع الجديدة على الأرض داخليا وإقليميا، أن تجديد دور الأمم المتحدة جاء بعد أربع سنوات من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة عام 2003 وما تلاها من فوضى كان من نتائجها المتسارعة تمزيق المجتمع العراقي وظهور قوى ظلامية وطائفية هي في النهاية قوى إقصائية ومعادية للديمقراطية.

كيف يبدو الوضع في العراق الآن:

أولا : على المستوى الإنساني :1 ـ بسبب أعمال التطهير الطائفي والعرقي أصبح ثلث العراقيين لاجئين اليوم، ونصف هؤلاء مهجّرين داخليا. وأبعاد هذه المشكلة شديدة الخطورة كونها تشكل البيئة المناسبة ليس لحرب أهلية، فهي موجودة فعلا ، بل لسلسلة من الحروب الأهلية نتيجة المزيج المتنوع لهذا البلد وتاريخه وتاريخ المنطقة بشكل عام.

2 ـ إن الإحصائيات الأكثر تواضعا تقول ان عدد الضحايا من المدنيين العراقيين بلغ نصف مليون لحد الآن.

ثانيا: على المستوى السياسي والإدارة المحليّة:

1 ـ أصبح التطرف الديني والسياسي في العراق والمنطقة أقوى مما كان عليه في أي وقت مضى. وأصبحت أيديولوجية القاعدة هي القاسم المشترك لمجموعات ما فتئت تتشكل، حتى من دون أن تكون هناك اية علاقة تنظيمية بينها. (لنتذكر انه في عام 2003 عندما تقرر شن الحرب كان أحد الأسباب المعلنة لهذا القرار هو الفرضية الخاطئة القائلة بأن خلايا للقاعدة تعمل في العراق. والآن وبعد أربع سنوات من الأخطاء والتخبط أصبحت هذه الخلايا موجودة فعلا في العراق، بل وامتلكت ترف إدارة شؤون القرى، مثلما حصل قبل عدة أشهر في محافظتي ديالى ونينوى).

2 ـ وصل المأزق الدستوري في العراق مداه، ويبدو أنه بلا مخرج. إن ثلاثة قوانين طلب الدستور إنجازها وهي قانون النفط والغاز وشكل النظام الفيدرالي وموضوع كركوك تبدو غير قابلة للتحقيق. كما أنّ جميع المقترحات التي طرحت لحلّ هذه المواضيع خلقت مشاكل جديدة بدلا من حلّ المشاكل السابقة، وذلك بسبب اجواء الشك وعدم الثقة المفرطة بين الأطراف المعنية. الشيء الوحيد الذي اتفق عليه العراقيون هو الهروب الى الأمام ولكن باتجاهات مختلفة ومتعاكسة.

3 ـ لم يعد المشهد السياسي يشهد قيام تحالفات جديدة والتحالفات القائمة آخذة بالانفراط : لقد غادر الصدريون الحكومة كما غادرتها جبهة التوافق وحركة الوفاق الوطني وخرجت كتلة الفضيلة من الائتلاف الشيعي وهناك صدامات دامية بين مجموعات من المقاومة والقاعدة .. الخ.

4 ـ إن التخمينات الأكثر واقعية تشير الى أن عشرين مليار دولار سرقت من موارد الدولة منذ عام 2003. كثير من المسؤولين العراقيين، الذين أصبحوا معتادين على قضاء وقتهم في الخارج أكثر مما في العراق، لا يعرفون من العراق غير المنطقة الخضراء التي تعزلهم جسديا بقواطعها الكونكريتية العالية ليس فقط عن المشهد الدموي في البلد، بل وتعزلهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا أيضا.

5 ـ تفاقم الطائفية والتهجير القسري للسكان

لو قررت الإدارة الأمريكية إعطاء الأطراف الإقليمية والدولية مؤشرات بأنها اقتنعت أخيرا بعدم إمكانية الحل الأمريكي المنفرد للأزمة العراقية، فإنها تحتاج في هذه الحالة الى أكثر من قرار مجلس الأمن الأخير. فهي تحتاج أولا الى الإقرار بأن أفعالها عمقت التمزق والتوتر في منطقة تعاني أصلا من الهشاشة والتعقيدات. بعد ذلك عليها إعادة قراءة الوضع برمته، بضمن ذلك الحلول التي طرحت لحد الآن، والتي كانت إمّا غير مناسبة أو أنها جاءت متأخرة كثيرا. ثم عليها أن تصل في النهاية الى قناعة بأن انطلاقة جديدة وجذرية هي القادرة على أن ترسل رسالة واضحة للشعب العراقي ولقواه الحيّة ولبلدان المنطقة وللمجتمع الدولي بأن عصرا جديدا سيبدأ، وأن نقطة انطلاق هذا العصر الجديد هي قطع الصلة بكل ما جرى بناؤه في العراق لحد الآن على أساس زائف.

ولعل بريق الأمل يكمن في تلك الفكرة القديمة القائلة بعقد مؤتمر دولي تدعى له كل الأطراف العراقية بوصفها أطراف في نزاع ، ويدعى له جميع اجيران العراق والأطراف الدولية المعنية.

بدون الدعم الضروري الكامل من اللاعبين الإقليميين والدوليين سيكون صعبا على العراقيين إنجاز المصالحة فيما بينهم. أمّا خيار الحسم العسكري فلا يجب التفكير فيه، وشعوب المنطقة تعتبره إهانة واستفزازا وظلما إضافيا يضاف الى أشكال الظلم الأخرى التي تعانيها.

في الختام، يجب إقناع العراقيين بأن عليهم أن يفهموا أن المصالحة هي لصالح شعبهم الذي عانى الكثير وله كامل الحق أن يأمل بمستقبل أفضل. وعلى دول المنطقة أن تفهم أن استقرار العراق وأمنه يصب في مصلحتها. وعلى المجتمع الدولي أن يسعى لإطفاء النيران في العراق قبل أن تمتد الى المنطقة ذات الأهمية البالغة بفعل تاريخها وكذلك لأهمية استقرارها للاقتصاد العالمي.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، ومع افتراض اجتماع النوايا الحميدة محليا وإقليميا ودوليا بطريقة سحرية، فسنحتاج الى المزيد من الوقت والتضحيات .. قد تبقى بعض الجروح الغائرة وقد تبقى بعض الأجندات متناقضة، ولكن سيبقى العراق وليس غير العراق. لا بد أن نصل في نهاية المطاف الى جوهر الحقيقة وعند ذلك يتوقف هروب اللاعبين الى الأمام ويبدأون التعلّم من جديد على العيش سوية. وإذا لم يحصل كل هذا فإن تعبير (العراق) قد يصبح مثل تعبير (بلاد ما بين النهرين)، جزءا من التاريخ.

* باحث أساسي في مركز الابحاث والتنمية الدولية ومركز الابداع للحكم الدولي ـ كندا.

الممثل الخاص السابق للأمين العام لجامعة الدول العربية في العراق

[email protected]