دولة المربعات الأمنية

TT

أخيرا ـ لا آخرا ـ جاء دور السفارات العربية في بيروت، للإقامة داخل «المربعات الأمنية» التي أصبحت معلما من المعالم الهندسية للعاصمة اللبنانية، ودليلا اللبنانيين الى مقار زعمائهم وقادتهم السياسيين.

وبعد الدبلوماسيين سيأتي قطعا دور الإعلاميين ودور الصحف ومؤسسات البث التلفزيوني لاعتماد الإقامة الجبرية في «مربعاتها الأمنية».. بانتظار زج لبنان كله في مربع أمني كبير.

لماذا استغراب اتساع رقعة «التهديدات» في لبنان لتطال الدبلوماسيين والإعلاميين وشعار المرحلة، منذ انسحاب جيش الوصاية ـ الأمنية والسياسية ـ من أرض لبنان عام 2005، إحباط قيام الدولة «القادرة» وتقويض اسسها؟

أو ليس غياب الأمن أول مظاهر غياب «الدولة»؟ فكيف اذا كانت الدولة مشلولة من قمتها الى قاعدتها بقرار اقليمي وتواطؤ محلي؟

ربما كانت مرحلة «التهديدات» التي يشهدها لبنان اليوم فصلا مكملا لمرحلة سابقة تمثلت بشل عمل أجهزة الدولة، وتفريغ مؤسساتها الدستورية بحيث يبقى الشارع ـ بمفهومه الغوغائي ـ المرجع الأول والأخير للقرار السياسي في بيروت.

والواقع ان متابعة «تحولات» الخطاب السياسي في لبنان، منذ نعتت دمشق رئيس حكومته بـ«العبد المأمور»، تظهر تدرجا تصعيديا متواصلا في لهجته الى حد بلوغه، مؤخرا، مستوى التهديد العلني باحتلال كل لبنان.

وقد يكون أفضل نموذج لهذا التحول ـ المدروس كما يبدو ـ في لهجة الخطاب السياسي في لبنان، تذكير نائب حزب الله حسن فضل الله، قبل ثلاثة أيام: «نحن لا نخوض المعركة الداخلية بالأدوات التي نخوض فيها المواجهة مع العدو الاسرائيلي، ولو أردنا ان نخوضها بنفس الأدوات لانتهت المعركة منذ زمن». ومن ثم استنتاجه بأن حزب الله ،«لو أراد أن يفكر بمنطق حزبي.. أو في إطار حزبي معين.. لربما انهى المشكلة الداخلية منذ اليوم الأول، ولذهبنا بحسم الأمور بالطريقة التي تفاجئ هؤلاء الذين يتسلطون في الداخل».

مفاجأة هذا التصريــح، قـد تكون في التلميح الى احتمال رجوع حزب الله عن تعهداته السابقة، بأن لا يوجه ما يسميه «بندقية المقاومة» نحو الداخل.

ولكن الظاهرة الاكثر اثارة للاهتمام في هذا التلميح تبقى في ذلك النهج السياسي المتوسل تعميم أجواء الرعب في اوساط المجتمع اللبناني، بواسطة تصريحات يومية مثقلة بالتهديد والوعيد. وقد لا تكون مجرد صدفة، أن تترافق هذه الأجواء مع سيل من الشائعات الموجهة، تتحدث عن احتمال احتلال السراي الحكومي والمصرف المركزي والسيطرة على وزارات الدولة، واقفال مجلس النواب ـ المعطل اصلا ـ للحؤول دون انتخاب رئيس للبلاد لا يرضى عنه حلف الأصوليين والوصوليين في الداخل والراعي الاقليمي في الخارج.. وكأن المطلوب في هذه المرحلة تيئيس اللبنانيين من أي تسوية ديمقراطية ـ كي لا نقول سلمية ـ لأزمتهم السياسية.

كل أناء ينضح بما فيه

وإذا كانت هذه التهديدات وهذه الأجواء «عينة» عن الدولة الأصولية الشمولية المعدة للبنان، يبقى الباب الوحيد المفتوح في وجه اللبنانيين الآخرين هو باب الهجرة الى الخارج، وهو باب لم يقصر اللبنانيون بولوجه منذ تفجر الأزمة الراهنة.

ربما كان هذا الخيار أحد الأهداف الجانبية لحملة الترويع التي تستهدف المجتمع اللبناني في الوقت الحاضر، والتي تجاوزته الى السلك الدبلوماسي العربي ايضا.

وقد تكون تعزية اللبنانيين من هذا التطور اصرار السفارات المهددة على البقاء في بيروت، ورفضها إخلاء شوارعها للغوغائيين.

قديما قيل :إذا كان رب الدار للدف ضاربا... فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ.

وحين يكون العديد من «أرباب الدار» في لبنان من المنتمين الى لبنان بالهوية وليس بالولاء، يصبح الضرب على دف أمن اللبنانيين، استراتيجية معتمدة لالهاء اللبنانيين بـ«الرقص»... على أمل تهيئة الظروف المناسبة لعودة لبنان كله الى «بيت الطاعة» الاقليمي.