ديانا العربية!

TT

الأميرة ديانا الإنجليزية تختلف تماما عن الأميرة ديانا العربية، ولكن كلا منهما تعكس قيم مجتمعها ونسق تفكيره. ديانا الإنجليزية كانت ضجرة من التقاليد الصارمة والنفاق الفيكتوري، الذي كانت تمارسه العائلة المالكة وتطالبها بالالتزام به، كما كانت ضحية زواج من رجل تزوجها وقلبه يميل إلى سواها، فكانت بتقربها من الناس العاديين وممن يصارعون الإيدز والسرطان وأصحاب الاحتياجات الخاصة وغيرهم من المرضى وفقراء العالم والمحتاجين تعبر بطريقة بسيطة ومدهشة عن القيم البريطانية الجديدة، طريقة تتناقض مع الأعراف الملكية، التي لم تعهد أن تقترب أميرة على حافة العرش الملكي من البشر بهذه المباشرة والحميمية.

وصف مراسلة قناة الـ«بي بي سي» البريطانية لمشهد العزاء، ما زال في ذاكرتي لعشر سنوات، عندما خرجت الملكة وزوجها لإلقاء نظرة على الورود التي تركها المعزون خارج قصر بكنغهام في لندن، قالت المراسلة: «كانت العائلة المالكة تقف على جانب من الطريق، بينما يقف المعزون على الجانب الآخر».. كانت في الوصف رمزية عالية لموقف الشعب البريطاني من العائلة المالكة ومن ديانا.

أما ديانا العربية، فهي امرأة ماتت في حادث مدبر. الأساس في القصة العربية لم يكن ديانا بزواجها التعيس أو نشاطها لنزع الألغام من حقول العالم أو إسهاماتها في الجمعيات الخيرية أو زياراتها لمشافي الأمراض المستعصية، ولا حتى في خياناتها الزوجية، أو مرض اضطراب الشهية الذي كانت تعاني منه نتيجة اكتئابها.. كان الأساس في قصة ديانا عند العرب هو فقط علاقتها مع عماد (دودي) الفايد الذي ربطتها به علاقة عاطفية لفترة زمنية محدودة في آخر حياة كل منهما.

الصحف العربية أيامها، وللدهشة فإن بعضها حتى الآن، قالت ان ديانا كانت حبلى بابن الفايد، وأن العائلة الملكية كانت خائفة من هذا الحمل، فكيف يكون شقيق ولي عهد بريطانيا المقبل مسلما؟ طبعا الصحافة العربية لم تتخيل ولو للحظة أن يكون الجنين أنثى، لا بد أن يكون ذكرا، أليس حملا عربيا!.. وروجت بعضها أن ديانا اعتنقت الإسلام سرا وأنها كانت تنوي ارتداء الحجاب!.. وقال بعض العرب إن تدبير حادث موت ديانا مرده الخوف الذي سيطر على صهاينة الغرب من أن تساند الأميرة القضية الفلسطينية، فعندما تساند الأميرة المحبوبة في جميع أصقاع المعمورة قضية ما لا بد أن تكسب هذه القضية تعاطفا وتأييدا لدى شعوب العالم المغرمة بديانا.. لذا دبر لها الصهاينة هذه الميتة المؤلمة!

تعاطف العرب مع ديانا، وهم الذين في تقاليدهم وقيمهم لم يتعاطفوا مع امرأة خانت زوجها (ولو لمرة) حتى لو كان الزوج خائنا في وضح النهار، ولم يبرروا لامرأة أن تعاشر رجلا خارج إطار مؤسسة الزواج الشرعية حتى لو كان العشق قد تيمها وذهب بعقلها.. ولم يتسامحوا قط مع امرأة ظهرت ممددة بلباس البحر في قارب وسط البحر مع عشيقها.. ولم يفخروا أبدا في تاريخهم البعيد والقريب بامرأة حملت سفاحا.. نساء كديانا في العالم العربي كلنا يعرف كيف أنهن ينعتن بأقسى الألفاظ وأبشع النعوت، هذا إذا لم تطبق عليهن عقوبات الأرض والسماء.. فديانا الإنجليزية في عالمها الواقعي ضد كثير من الأساسيات في المجتمع العربي الذكوري، فلماذا عند ديانا تبدلت قيم العرب واختلفت كل معاييرهم؟!

ظني أن بعضنا تنازل عن هذه القيم، لأن ديانا دخلت في الصراعات الكبيرة. القصة لم تكن بالنسبة للصحف المصرية مثلا، أن ديانا خانت زوجها وإنما كان في التغلغل الجنسي واستعمار القلوب انتقاما للتغلغل والاستعمار البريطاني لمصر لمدة اثنين وسبعين عاما. فدودي الفايد هو الوطني الذي انتقم لشرف مصر بغزو مضاد، وكذلك هو الفهلوي الذي لم تنقصه الحيلة في تحقيق مآربه والتغرير بالإنجليز.. فهو بذلك قد أرضى لدى المصريين غرورين، الانتقام لغزو مصر وفهلوة ابن البلد.

أما بالنسبة لبقية العرب، فالقصة كانت الحمل. ديانا كانت ستلد لهم ذكرا عربيا مسلما يزاحم الإنجليز على عرشهم. في سبيل هذا لم يعد مهما أن تكون قد حملت سفاحا أو أن تكون علاقتها مع دودي خارج الزواج أو أن تكون امرأة بماض مع رجال آخرين وهي على ذمة زوج بطوله وعرضه وعرشه. كل هذه القيم التي يفتل لها ذكور العرب شواربهم ويتشدقون بها ليل نهار، أضحت تفاصيل صغيرة غير مهمة لأن الموضوع أكبر من ذلك بكثير.. فهنا تداخلت علاقة ديانا بالفايد مع قضايا العرب والمسلمين الكبرى، من نصرة الإسلام إلى إشهار الإسلام إلى الإسلام في العرش الإمبراطوري، وفي سبيل ذلك كل شيء يهون، بما فيها القيم التي تطلق وتهجر وتقتل لأجلها نساء العرب تحت مسمى الشرف.

ما أردته من الحديث عن ديانا، ليس التفتيش في خطايا المرأة، فهي إنسانة أخطأت وأصابت في سياق عالمها كما يخطئ ويصيب بنو البشر، ولكن الذي أود إثارته لماذا تبدلت قيم العرب الأخلاقية عند الحكم على ديانا؟ وإن كانت هذه القيم الأخلاقية تتبدل بهذه السهولة وتزدوج بهذا الوضوح، فما مدى جديتها وأصالتها؟

لدي تفسير قد يكون مقبولا، وهو أن الأخلاق المهتزة تحدث في المجتمعات السلطوية، التي يكون فيها الفصل كبيرا بين الأخلاق الخارجية التي تهدف إلى إرضاء المجتمع، والأخلاق الداخلية التي تعكس قناعات الأفراد. وهذا لا ينطبق على العالم العربي فحسب، وإنما يشمل كثيرا من التجمعات البشرية في فترات الانتقال من المجتمعات التقليدية إلى الحداثة. أخلاق التجمعات الصغيرة لا تعكس جوهرا قيميا خاصا، وإنما هي في الأصل وسيلة دفاع لتجنب غضب الجماعة أو القبيلة. مع الحداثة وترهل بنية القبيلة والعيش بعيدا عن المجموع ـ القطيع، يضطر الإنسان إلى تطوير منظومة قيمية ترضيه حتى لو أغضبت الآخرين، لأن الفرد في المجتمعات الحديثة هو الأصل وليس المجموع.

في مجتمعاتنا التي تقف ما بين المجتمعات القبلية والحداثة تتذبذب القيم، فنتبنى خطابا للداخل مختلفا عن خطابنا للخارج، نتحدث أمام الناس (الغرباء) غير ما نتحدث به أمام الناس (الأقرباء). في مجتمعات كهذه، يصبح الفرد كمن يؤدي دورا على خشبة المسرح يقول للجمهور ما يظن أنه رأي الجمهور، حتى لو لم يكن هو رأيه الحقيقي.

ولا أظن أن هذا هو التفسير الوحيد لتذبذب القيم والمعايير الحاكمة عندنا. فأنا متأكد أن قارئي لديه تفسيرات أخرى ليست أقل معقولية، ولكن يبقى السؤال: لماذا اختلفت ديانا العربية عن ديانا الإنجليزية، وتباعدت صورتاهما كل هذا التباعد؟ إنه أمر جدير بالنقاش ليس في قضية ديانا وحدها وإنما في الكثير من القضايا العربية المعاصرة التي تكون فيها رؤيتنا مغايرة تماما لما يراه العالم من حولنا. بالطبع من حقنا أن تكون لدينا رؤيتنا الخاصة والمختلفة، ولكن بالتأكيد ليس من حقنا أن نخترع مثلا ديانا على أهوائنا.. ديانا عربية بمقاييس ومواصفات لا تشبه ديانا بقية العالم. الأخطر من هذا هو البهلوانية القيمية المتأرجحة كتلك التي تبرر لنا قتل نسائنا بالمعنى الحرفي والمعنوي للكلمة تحت مسميات طنانة، بينما نتغاضى عن هذه المسميات والأحكام في قصة ديانا التي قتلتها مؤامرة كبيرة وقد كانت ستنجب لنا سليل العرب والمسلمين!

تنسحب هذه البهلوانية على سلوكنا تجاه الكثير من القضايا، من إشاعة مرض الرئيس المصري.. إلى سياسة الانفصام المتلفزة في لبنان وفلسطين.. إلى موت ياسر عرفات.. إلى سقوط أشرف مروان من شرفته اللندنية.

ترى متى سنكون منطقيين في رؤيتنا لما يجري في هذا الكون؟ أنا لا أطالب بأن نتخلى عن نظرية المؤامرة فى القضايا الكبيرة، هذا أمر قد يذهب بكثير من العقول وتضيق به كثير من النفوس، فقط أطالب بقليل من المنطق.. ولنبدأ على الأقل بالقضايا الصغيرة.. ولتكن قصة ديانا في ذكرى رحيلها هي البداية.