كيف قاد عبد الله بن عبد العزيز السفينة السعودية بعد إعصار 11 سبتمبر؟

TT

استنزفت الهجمات الإرهابية وقوى التضليل والتخريب الكثير.. الكثير من أرصدة المملكة العربية السعودية السياسية والأدبية.. وأدخلتها في أزمة تاريخية مع «الدولة العظمى» في العالم. أيقظت الصدمة المملكة فتوجهت بما لديها من إمكانات وعلاقات للسيطرة على الآثار السلبية لتلك الضربات، ولاستعادة مكانتها وسمعتها في العالم.

بدأت المعركة الشرسة منذ أحداث 11 سبتمبر الكارثية عام 2001 عندما تبين أن (15) سعودياً شاركوا في تلك الأحداث.. وما تلا ذلك من بيانات وأشرطة لزعماء «منظمة القاعدة» يهددون فيها أمريكا بمزيد من الضربات، ويعلنون فيها الحرب على العالم، ويعدون بتحرير جزيرة العرب من المشركين والصليبيين.

وجدت السعودية نفسها فجأة في المواجهة لأحداث دولية لم تختر الدخول فيها، وهي الدولة المعروفة بالرزانة السياسية والاعتدال في المواقف. وكانت صدمة الشعب الأمريكي كبيرة عندما عاش هزيمة تاريخية نكراء شارك في صناعتها حلفاء أساسيون كانوا شعباً وحكومة موضع التقدير عنده.

أسقطت «منظمة القاعدة» برجي التجارة العالمية في نيويورك، وما يمثلاه من واجهة اقتصادية لأمريكا خاصة وللرأسمالية عامة، واخترقت إحدى الطائرات الانتحارية حرم البنتاغون وأشعلت فيه النيران، وما يمثله ذلك الاختراق من تعدٍ على قلعة من قلاع القوة والمنعة لأمريكا خاصة وللغرب الحر عامة. ماذا بقي لأمريكا من واجهات اقتصادية وقلاع عسكرية تستحق الاحترام وتبعث على الطمأنينة بعد ذلك يا ترى!؟

توجهت الأنظار للسعودية لأسباب موضوعية فقيادة الأعداء الغازين «جنود القاعدة وأتباعها» محسوبة على السعودية، وأغلب المقاتلين في تلك الهجمات الهستيرية من السعودية، والمعلن من الشعارات الدينية «سلفية» جهادية.

عصفت عاصفة الإعلام التي دقت طبول الحرب على الأعداء الحقيقيين والمحتملين، واتخذت الحكومة الأمريكية القرارات لخوض المعركة. إلا أن العدو أشباح هائمة لا دول لها ولا جيوش ولا قواعد تستحق الضرب والانتقام.

توجهت الجيوش والأساطيل العسكرية لضرب أفغانستان وإسقاط حكومة «طالبان»، وتم ذلك لأمريكا في (36) يوماً من بداية الضربات العسكرية في 7 أكتوبر2001 . إلا أن الأنظار والمناقشات في وسائل الإعلام ومراكز البحوث والجامعات متوجهة للسعودية باعتبارها ـ حسب الرأي المسيطر ـ حاضنة الإرهاب، وممولة الإرهابيين ومصدّرة «الوهابية»، وحامية «السلفية الجهادية» ومصدر ثقافة الكراهية..إلى غير ذلك من الأفكار المطروحة للنقاش بجدية وخطورة. ومما طرح في هذا السياق ـ كنموذج ـ ما دعت إليه الكاتبة الأمريكية مورين داودMaureen Dowd من «إعلان الحرب على السعودية التي أعطت عصور الظلام اسماً سيئاً» في مقالتها المنشورة في جريدة «النيويورك تايمز» في 28/8/2002 وأعيد نشرها في اليوم التالي في جريدة «الغارديان» البريطانية.

لم تكن المملكة جاهزة للمواجهة، وأخذت وقتاً لتتعافى من الصدمة التي أدخلتها في مواجهة تاريخية لم يكن لها سابق تجربة معها. كانت المواجهات التي عاشتها السعودية تاريخياً مع دول عربية وإسلامية مثل مصر واليمن وإيران، وكانت مساحات الخلافات محدودة وكانت المواجهات في الغالب إعلامية عدا حوادث معدودة. أما المواجهات الحالية فإنها مع الدولة العظمى في العالم «أمريكا» بما لديها من إمكانات عسكرية واقتصادية وسياسية وإعلامية وعلمية. ولم تكن المواجهة مع الحكومة الأمريكية فقط ليسهل التفاوض واحتواء الأزمة، وإنما المواجهة مع أمريكا كلها من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها. كانت أمريكا الدولة التي عاش فيها أكثر من (600) ألف سعودي خلال (50) سنة من العلاقات الثنائية المتميزة، وهناك أكثر من (40) ألف سعودي يحملون الجنسية الأمريكية من الذين ولدوا في أمريكا أثناء دراسة والديهم فاستحقوا حسب النظام الجنسية الأمريكية، وربما لا توجد في السعودية جامعة ولا مؤسسة عسكرية أو مدنية ليس فيها عدد من الذين درسوا أو تدربوا في أمريكا، ويندر ألا تكون هناك قرية أمريكية أو مدينة لم يعش فيها سعوديون، لدرجة أن الكثير من السعوديين يعرفون أمريكا أكثر من الأمريكان أنفسهم، وكان عدد الطلاب والمبتعثين في بداية الثمانينات من القرن الماضي يزيد على (23) ألفا، والجامعات والمعاهد في ولايات غرب أمريكا تعج بالسعوديين الطلاب والسياح لجمالها واعتدال الطقس فيها. أما السفارة السعودية في واشنطن فكانت مرجعاً للعرب والمسلمين تؤازرهم وتشاركهم همومهم وطموحاتهم، وكان عميد السفراء العرب الأمير بندر بن سلطان نجماً متألقاً في سماء واشنطن، استوعب السياسية الأمريكية فسخرها بثقة ومهنية لتوثيق العلاقات السعودية الأمريكية، ولخدمة وطنه، وخدمة قضايا العرب والمسلمين.

عصفت العواصف على إثر أحداث 11 سبتمبر الكارثية فكادت أن تأكل الأخضر واليابس، وأصبحت السعودية في مواجهة مع أمريكا بالرغم من العلاقات الحميمة بين القيادات السياسية في الدولتين، وبالرغم من العلاقات المتميزة إبان الحرب الباردة، وبالرغم من التعاون الوثيق أثناء حرب تحرير الكويت، وبالرغم من التاريخ المجيد لعلاقات متميزة مثمرة لأكثر من (70) عاما. أصبحت السعودية في عين العاصفة، وأصبحت في مواجهة مع القدر الصعب الذي حجّم دبلوماسيتها وعرّضها للمساءلة والتحقيق والمطاردة، والتغطيات الإعلامية المهولة الجارفة.

استوعب الملك عبد الله ـ قبل غيره ـ الأحداث، فلم يتردد ولم يجامل ولم يتوان في اتخاذ الموقف السعودي المشرف تجاهها. أدرك أن بلاده مستهدفة من قبل قوى التضليل والتخريب والإرهاب، وأدرك أن العلاقات السعودية ـ الأمريكية مستهدفة، وأدرك أن الإرهابيين اختطفوا الإسلام ونصبوا أنفسهم ممثلين عن الأمة الإسلامية، وتيقن أن إعلان الحرب على العالم من قبل تلك الفئات اليائسة المعزولة ليس في صالح الأمة ولا يخدم قضاياها وإنما يخدم مصالح أعدائها.

أدرك ذلك كله بوعي ومسؤولية فعقد العزم على المواجهة، وكان النصر حليفه في تلك المواجهات المكلفة المعقدة. سعى الملك عبد الله لحشد الطاقات الداخلية من كتاب ومفكرين وإعلاميين ومثقفين وعلماء وأمنيين لبلورة موقف وطني موحد ضد جيوب الفساد والإرهاب وجيوش التضليل والتخريب. ثم هيأ الملك يوم كان ولياً للعهد الفرص كاملة للقطاع الخاص والمثقفين والمتخصصين رجالا ونساء للمشاركة في معركة التحرير والتطهير من أفكار التشدد داخل وخارج المملكة . فتح المجال للإعلام السعودي ولرواد الفكر والثقافة من السعوديين والسعوديات للمشاركة في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية بدون قيود تذكر مع تقبل بنّاء للتحليل والنقد.

شارك عبد الله القائد الصادق الواثق في إبراز معالم ثقافة بلاده، وإيضاح وجهات نظر الحكومة، حتى أصبحت لقاءاته ومقابلاته في الإعلام المكتوب والمرئي أخباراً أساسية يتلقاها المتعطشون لمعرفة ما بداخل ذلك الوطن الذي ـ حسب وجهة نظرهم ـ صدّر الإرهاب للعالم. ومن الأمثلة على ذلك مقابلته مع توماس فريدمان Thomas L. Friedman أحد كتاب جريدة «نيويورك تايمز» (February 17. 2002) ومقابلة الملك مع الإعلامية البارزة باربرا والترز Barbara Walters في قناة أي بي سي ABC الأمريكية (Oct. 14. 2005).. وكان الملك ناجحاً موفقا في إعادة التوازن للتغطيات الإعلامية والمبادرات الإيجابية التي تغذي وسائل الإعلام بالحقائق والمعلومات الصحيحة عن المملكة.

انطلقت الوفود السعودية من رجال وسيدات الأعمال مع المثقفين والكتاب بروح وطنية للعالم فكانوا يلتقون بنظرائهم وبالسياسيين وبالبرلمانيين ليوضحوا لهم ما عليه المملكة من واقع يختلف عما في أذهانهم، وكان لتلك المجهودات المدعومة من الملك عبد الله شخصياً الآثار الحميدة الباقية. رفع الملك عبد الله شعار الانفتاح ودعا للإصلاح، وأعلن الحرب ـ بلا هوادة ـ على التشدد والإرهاب وعلى المتعاطفين والممولين لقوى التضليل والتخريب والتفجير والتكفير، فتحرك المجتمع السعودي وعادت له الحياة.

فعّل الملك الدبلوماسية السعودية لإيضاح الموقف السعودي تجاه الأحداث، ووجه الجهات المعنية لتيسير الاتصال بوسائل الإعلام كافة، ولتسهيل زيارات المختصين والإعلاميين للمملكة بدون القيود السابقة التي حرمت السعودية لعدة عقود من العلاقات الدائمة بالمهتمين بقضايا الشرق الأوسط عامة وبالسعودية خاصة، وكانت سفارتا السعودية في واشنطن ولندن منطلقا للدبلوماسية الفعالة والتواصل المثمر، واستقبلت الرياض في عام 2004 قرابة (600) من الإعلاميين، وفي عام 2005 قرابة (1000) من الإعلاميين من شتى دول العالم. وكان لانعقاد المؤتمر العالمي لمكافحة الإرهاب الذي دعا له الملك عبد الله وتم انعقاده ما بين 5 و 8 فبراير عام 2005 بالرياض بمشاركة وفود من (62) دولة ومنظمة، ولإعلان الرياض الذي انبثق من تداولاته، أكبر الأثر إقليمياً ودولياً، لما اتسم به ذلك المؤتمر العالمي من تنظيم ومصداقية وواقعية.

توّج الملك عبد الله الذي يقود مسيرة الانفتاح والإصلاح في بلاده، ويوجه مسيرة الاعتدال في الشرق الأوسط بشخصيته الكاريزماتيكية، تلك الجهود بزيارات ناجحة لعدد من دول العالم.

وكان لزيارته التاريخية لأمريكا في 25 ابريل عام 2005 النتائج الملموسة لإعادة تأسيس علاقات سعودية ـ أمريكية متينة. التقى الملك عبد الله بأقطاب السياسة الأمريكية في أجواء هادئة في منتجع كروفرد بولاية تكساس Crawford. Texas وكان ذلك اللقاء مختلفاً في طقوسه ومضامينه عن اللقاءات السياسية المعتادة.

أعاد الملك عبد الله الحرارة للعلاقات السعودية ـ الأمريكية، ومثل باقتدار مملكة الإنسانية والسلام، وأقنع الحكومة الأمريكية مع تنوع مكوناتها بأن بلاده ليست «معادية لأمريكا» كما نادت بذلك دراسات وتقارير لوران موراويك Laurent Murawiec المقدمة لمجلس الدفاع الأمريكي عام 2002، وليست «محورا من محاور الشر» كما اعتبرها ريتشارد بيرل Richard Perle وزميله ديفيد فرم David Frum في كتابهما «نهاية الشر: كيف نكسب الحرب ضد الإرهاب»An End to Evil: How to Win the War on Terror، كما أستطاع أن يقدم شعبه كصديق للشعب الأمريكي من خلال بلورة القواسم المشتركة بين الشعبين لصالح بلديهما ولتحقيق الأمن والسلام في العالم.

تحقق للملك في تلك الزيارة إعادة بناء أسس الشراكة التي تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وتم إنشاء لجنة مشتركة للتعاون الاستراتيجي، وعاد السعوديون بالآلاف للدراسة في المعاهد والجامعات الأمريكية وتواصلت اللقاءات بين السعوديين والأمريكيين في القطاعات الاقتصادية والعلمية والسياسية، وسواها.

تجاوزت العلاقات السعودية ـ الأمريكية الأزمة التاريخية، وعاد التوازن لتلك العلاقة، وتولدت مشاعر وقناعات جديدة لدى السعوديين بأهمية العلاقة مع أمريكا، كما تولدت نفس المشاعر والقناعات لدى الأمريكيين بأهمية العلاقة مع السعودية.. مع عقد العزم على تطويرها وصيانتها.

لقد حسمت السعودية موقفها من قوى التضليل والتخريب والتشكيك

والتفكيك التي تطاولت على أمنها ومكانتها وإنجازاتها الحضارية. أعلنت القيادة الحازمة الحرب على تلك القوى، وأجهضت مشاريع العابثين بمصالحها الوطنية، مؤكدة للقاصي والداني أن تلك البلاد قيادةً وشعباً وثقافة ومؤسسات قادرة على استيعاب الأزمات والخروج منها بمزيد من الأرصدة الأدبية والمادية.

* كاتب وعضو

مجلس الشورى السعودي