المصالحة الوطنية الجزائرية.. تحديات جديدة

TT

رغم بعض العمليات الإرهابية التي ما زالت تحدث هنا وهناك في أماكن مختلفة من البلاد، إلا أن المتّتبع للشأن الجزائري لا يسعه إلا أن يعترف أن لا مجال للمقارنة بين جزائر اليوم وجزائر التسعينيات. فمظاهر الحركة والحيوية أصبحت اليوم واضحة للعيان في كل مكان وفي كل المجالات، وإن لم تكن بالضرورة تعبر عن تطور اجتماعي واقتصادي كبير، إلا أنها دليل قاطع على نهاية عهد الرعب الذي ميز العشرية الدموية التي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف جزائري، تشرد فيها الملايين ووصلت فيها خسائر الجزائر إلى أكثر من 20 مليار دولار.

في تلك الحقبة السوداء، عرفت الجزائر عدة رؤساء، كل منهم كان يصّرح أن ما يحدث من عنف ليس إلا بقايا إرهاب، لكنهم ذهبوا هم وبقي الإرهاب، إلى أن جاء الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة بتصور جديد للقضاء على آفة هذا العصر تحت مسمى «سياسة المصالحة الوطنية» والتي بدأ بتطبيقها فعلاً ابتداء من سنة 2005، وهي السياسة التي تقضي بالعفو الشامل عن جميع من تورطوا مع جماعات إرهابية مقابل إعلانهم التوبة ووضع السلاح. السياسة نجحت حتى الآن في تحقيق نوع من الاستقرار الأمني وإعادة بعث الحياة الاقتصادية من جديد في البلاد مما سمح حتى بدخول مستثمرين وشركات أجنبية الشيء الذي كان مستحيلاً قبل عشرية مضت، كما كان لها الفضل في عودة الاستقرار النفسي لكثير من الجزائريين الذين عانوا كثيراً من الفوضى التي كانت سائدة إبان سنوات الدم والرعب في ظل غياب دولة القانون.

لكن السياسة التي رفع شعارها الرئيس بوتفليقة واستشار فيها الشعب الجزائري في سبتمبر 2005 لم تسلم من انتقاد طبقة سياسية وشعبية واسعة، منها جمعيات عائلات المفقودين ومنظمات حقوق الإنسان الجزائرية، وجميع أولئك الذين عانوا مباشرة من ويلات الإرهاب، ولنا أن نتفّهم معاناة أمٍ أو أبٍ وهما يريان من شارك في اغتيال فلذة كبدهما وهو حرٌّ طليق، بل ويتمتع بالحماية الأمنية اللازمة والمساعدات المالية الكافية لإعادة دمجه في المجتمع، أو حسرة آخرين وهم يرون ملف اختفاء ذويهم وهو يغلق إلى غير رجعة وكأن المشكلة حلت بتبرئة العناصر التي شاركت في الإرهاب من جرائمها وشراء سكوت الأمهات الثكلى بالأموال... !

ربما ظهرت هذه العراقيل التي عكرت في الأول سير هذه السياسة بمثابة نقطة ماء أمام بحر التحديات التي باتت تواجه مسألة المصالحة الوطنية في الجزائر، وما أحداث الأسابيع الماضية التي استهدفت فيها الجماعات المسلحة أحد القياديين السابقين والذي كان قد استفاد من العفو الشامل، سوى صورة مصّغرة عن هذه الوضعية الجديدة. فالجماعة السلفية للدعوة والقتال التي ما زالت ترفض المصالحة أصبحت تحسبُ على «تنظيم القاعدة للمغرب العربي» منذ نوفمبر 2006 وكأن وضعها الجديد أكبر من طاقتها، فهي أصبحت تعلن إثر كل محاولة اغتيال تستهدف أحد العناصر التائبة، أن هذه الأخيرة تمت بفعل الإرادة الفردية لعناصر لم تستشر الجماعة، فهل تنفع المفاوضة مع جماعات تعترف ضمنياً أنها لم تعد تتحكم في الوضع؟ وهل ينفع الحوار مع جماعات تبعث بأطفال في سن المراهقة لتفجير أنفسهم وسط المدنيين والأبرياء كما حدث مع الطفل الانتحاري الذي فجر نفسه ـ أو أُرغم على ذلك ـ قبيل مرور الموكب الرئاسي بولاية باتنة..؟ بل ومع من نتفاوض وأي سلطة أخلاقية لهؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم «تنظيم القاعدة للمغرب العربي» والذين ليسوا سوى عصابة من قطاع الطرق والمجرمين الذين استحّلوا العيش على النهب والخطف وابتزاز أموال الأبرياء ومعهم أجانب من المطاردين والمطلوبين دولياً والذين دخلوا إلى الجزائر إما قادمين من العراق أو مناطق أخرى حسب معلومات أجهزة الأمن الجزائرية.

وإن كانت سياسة المصالحة الوطنية قد أثبتت فعاليتها في إعادة نوع من السلم المدني للمجتمع الجزائري الذي عانى طيلة العشرية الحمراء من فظاعات الإرهاب، إلا أن المسعى يبدو ناقصاً ما دام باب المشاركة السياسية لجميع التيارات، ولا سيما المُعارضِة منها، لا يزال موصداًً. هي القضية التي اعتبرت من الأول أسَّ المشكلة، وقد كانت الجماعات الإسلامية قد بدأت نشاطها المسلح بحجة إلغاء الجيش لنتائج الانتخابات التشريعية سنة 1992 والذي كان قد أسفر عن فوز حزب الإنقاذ بأغلبية الأصوات، يليه حزب القوى الاشتراكية العلماني.

وكان الرئيس بوتفليقة نفسه قد أعلن مراراً أن سياسة المصالحة الوطنية لن تتم بين عشية وضحاها وإنما تدريجياً: فخصّص لها في الأول قانون الوئام الوطني ثم مشروع ميثاق السلم الوطني إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، فهل ينسى الرئيس أهم أطوارها وهي المصالحة السياسية الحقيقية وفتح مجال المشاركة للنشاطات الاجتماعية والنقابية المستقلة..؟ ربما كان الجواب على هذا السؤال هو التحّدي الذي ينتظر الرئيس بوتفليقة وهو على مشارف الترشح لولاية رئاسية ثالثة وقد أصبح للجزائريين الآن قناعات راسخة أن إعادة ترتيب البيت السياسي الجزائري أصبح من الأوليات التي تفوق مجرد إجراءات عفو أو تعويضات مالية.