استحقاق أم نقلة؟

TT

التداول بأسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية اللبنانية، العلنيين والمستترين، جار على كل لسان في لبنان ومعظمه في إطار مقارنة «الضد» الذي «يظهر حسنه الضد»... وبشاعته استطرادا.

في هذه الأجواء يبدو أن أولوية أصحاب القرار لم تعد أي رئيس ينتخبون للجمهورية اللبنانية بقدر ما هي أي مرشح يبعدون عن سدة الرئاسة، مهما كان الثمن.

خلافا لأي انتخابات رئاسية سابقة، أصبح السؤال الطاغي على خيارات اللبنانيين ليس من نريد رئيسا... بل من لا نريد. واللافت أن الأسماء المدرجة في خانة «الرفض» تفوق بكثير الأسماء المعتبرة لائقة للترشح.

هل هي ظاهرة استثنائية لهذه الانتخابات بالذات، أم حصيلة متوقعة للبعدين الداخلي والإقليمي المتحكمين بانتخابات لا تبدو «استحقاقا داخليا» ـ كما يحلو للبنانيين تسميتها ـ بل «نقلة» سياسية منتظرة بين لبنانين ـ لبنان المستكين في كنف الشرق السوري ـ الإيراني، ولبنان التعددي المنفتح على الغرب.

الواقع أن مشكلة انتخابات الرئاسة اللبنانية المقبلة ليست في شكليات انتخاب الرئيس ـ سواء بأكثرية الثلثين أم النصف زائد واحد ـ ولا في اسم الرئيس العتيد، بل في الصيغة التي سيرسو عليها النظام اللبناني بعد 25 نوفمبر( تشرين الثاني) المقبل.

وما يفاقم هذه المشكلة ويرفع من حدتها كون عملية انعتاق لبنان من حالة التبعية السياسية للنظامين الشموليين، السوري والإيراني، تأخرت عن موعدها، ففيما كان المفترض أن يتم هذا الانعتاق بالتزامن مع انهيار «مثال» الأنظمة الشمولية في العالم عام 1989، أي الاتحاد السوفياتي، أو مباشرة في أثره، طال عهد «الامر الواقع» في الشرق الأوسط لأسباب قد يكون أبرزها:

* تقصير ـ أو تهرب ـ الولايات المتحدة عن إيجاد حل منصف للقضية الفلسطينية ينزع فتيل بعض العداء المزمن لها في المنطقة قبل فتيل برميل البارود المتفجر فيها، أو يقلصه على الأقل، وذلك رغم أن الدول العربية، مجتمعة في قمة بيروت عام 2002، قدمت لواشنطن، وعلى طبق من ذهب، حلا واقعيا للنزاع، ينسجم مع القرارات الدولية ذات الصلة.

* استمرار الولايات المتحدة في «غض الطرف» عن «الوكالة» التي سبق أن أعطتها لسورية في لبنان، في الثمانينات، وتأخرها في «سحبها» منها إلى أن فرضت عليها متاعبها العسكرية في العراق إعادة النظر في موقفها من النظام السوري ـ الأمر الذي يوحي بأن وضع العراق عامل قوة وعامل ضعف معا في سياسة الدعم الأميركية لسيادة لبنان.

*التباين التكتيكي بين موقف الاتحاد الأوروبي المرن حيال سورية وموقف الولايات المتحدة المتشدد تجاهها ـ الى أن فرض اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005 تقاربا ظرفيا (آنذاك) بين الرئيسين جاك شيراك وجورج بوش انعكس تاليا على الموقف الأوروبي.

* أخيرا، تعقيدات التركيبة اللبنانية نفسها التي عرقلت ـ ولا تزال ـ التوافق على صيغة «الاستقلال الثاني» للبلد، وأغرقته، في نهاية المطاف، في حسابات التوازنات المذهبية الداخلية.

على ضوء هذه الخلفية يأخذ التنسيق الأميركي ـ الفرنسي أهميته، بل ثقله، في عملية الانتخابات الرئاسية في لبنان.

ولكن إذا كان الشوط الأول من مباراة الحؤول من دون عودة الهيمنة السورية ـ الإيرانية الى السراي الحكومي في بيروت قد اكتسب بفعل صمود حكومة الأكثرية البرلمانية في موقعها ودعم العواصم العربية والغربية لشرعيتها، فإن إبعاد أي «رئيس مطية» عن سدة الرئاسة في بعبدا يصبح أسهل منالا في حال تطوير التنسيق الأميركي ـ الفرنسي إلى حد إعطاء فرنسا «الوكالة» الأميركية التي كانت ممنوحة سابقا لسورية، ليس لأن «التدخل» الفرنسي مقبول في لبنان أكثر من التدخل الأميركي، بل لأن الوعي الفرنسي للخلفيات الداخلية للأزمة اللبنانية وللأسلوب التدريجي لمقاربتها يجعلانها الدولة الغربية الوحيدة القادرة على نقل لبنان من «حالة شرقية» الى «حالة ديمقراطية»... من دون التفريط بالتركيبة اللبنانية التقليدية، من جهة، ومن دون التعرض لتهمة العمالة للولايات المتحدة، من جهة ثانية.