يعملون ويتقنون

TT

كان ينام في السادسة ويستيقظ عند منتصف الليل ويبدأ بالكتابة وما يتوقف إلا منتصف النهار. وبعدها يخرج إلى شوارع باريس ومقاهيها وأحيانا بعض بيوتها، باحثا عن مواضيعه وأبطال رواياته. وكانت محبرته تسابق عينيه وأذنيه وهو يسابق الوقت والزمن وعصره. وفي يوم مؤلف من أربعة أرباع، ثلاثة منها للعمل، استطاع بلزاك أن يصبح تاج الرواية الفرنسية. والرجل الذي صاغ أعمق الروايات أخفق إخفاقا مضحكا في كل شيء آخر، وأقحم نفسه في مشاريع جنونية: وضع ما جنى في مشروع لاستغلال مناجم الفضة التي تركها الرومانيون في صقلية. ثم في زراعة الأناناس في حقول فرنسية لا ينبت فيها سوى الثلج.

وشارك في مشروع لاستيراد 60 ألف شجرة سنديان من بولندا لاستخدامها في السكة الحديدية الفرنسية. ولم يكن كل ذلك طمعا بالثروة. لأنه كان مبذرا لا يستكين. ولكنه كان حالما مثل أبطاله ويعيش في عالم خيالي. وقال عنه تيوفيل غوتييه «إنه لم يكن يعرف شيئا اسمه المستقبل. لم يكن عنده سوى يومه. وكان مقتنعا بما يتخيل حتى أنه يصدقه، فإذا تحدث عن وليمة كان يحكي وكأنه يتناول الأطباق».

لم يستطع أن يدرك أن ثروته الوحيدة موهبته الخارقة ومحبرته التي لا تجف. ولم يعرف أنه شاعر الرواية وحكائي الشعر. وما أتقن متقن قبله خلط الخيال بالواقعية بالشعر، حتى اختلط على الناس تصنيف ما يقرأون. وكان من محاسن الحقب الذهبية أن الذي نقل رائعته «اوجيني غراندي» إلى العربية، كان جواهريا من عاشقي اللغتين، العربية والفرنسية. وكان فؤاد كنعان يأبى أن يرسل جملة واحدة إلى المطبعة إلا محركة خوف الإساءة إلى كلمة يعشقها.

تلك كانت حقبة لا يلقي فيها الكاتب ولا المترجم أي كلمة من دون عناية. وإذ انتقل بلزاك بصناعة الرواية من الرومانسية إلى الواقعية بنى من حوله أهرامات من التفاصيل. وكتب مرة إلى إحدى صديقاته يسألها «اسم الشارع المؤدي إلى ساحة دو مورييه حيث كان الحداد الذي تتعاملين معه، ثم اسم الشارع الذي يشق ساحة دو مورييه في جانبها الأيسر، ثم اسم البوابة المؤدية إلى ساحة القلعة».

لم يكن بلزاك يعطي كل ذلك الوقت للكتابة وحدها، بل كان يعطي وقتا موازيا للتصحيح وإعادة الكتابة. والى الآن يتقبل كبار الكتاب وحملة «نوبل» أن تتعرض مخطوطاتهم للتصحيح والحذف في دور النشر الكبرى. الدعي والفارغ وحده يعتقد أن ما كتب لا يمس. ولكن أيضا يشترط في المراجعين أن يكونوا مرجعيين لكي تمتد أقلامهم إلى سطر لبلزاك أو جملة نحتها فؤاد كنعان. وقرأت أخيرا نقدا لكتاب غونثر غراس الأخير يتساءل فيه صاحبه «أين كانت يد المراجع عن التكرار الممل الذي وقع فيه حامل نوبل».