ألبو ريشة.. إنه «الدريوش» في فتنة الأمين والمأمون!

TT

يعيد ظهور الشيخ عبد الستار ألبو ريشة، وصحبه في مجلس إنقاذ الأنبار، ضد القاعدة وعصابات القتل، إلى الذاكرة تجربة عاشتها بغداد والأنبار معاً من قبل، عند غياب الدولة وجيشها وشرطيها، يوم قتل محمد الأمين (198هـ)، وتأخر عبد الله المأمون (ت 218عـ) بخراسان، وهروب الخليفة الطارئ على الخلافة وهو عمه إبراهيم بن المهدي (ت224هـ). عندها ملأ القتلة والفساق الفراغ بأدواتهم. مثلما هو الحال اليوم، هيمنة الميليشيات والعصابات إثر تلاشي الدولة، وضعف السلطة القائمة. وهنا يُقال خلافاً لفلاسفة حركة الزمن: «فالدهر آخره شبه بأوله.. ناسٌ كناس وأيام كأيام»!

جاء في الرواية: «كان فساق الحربية والشطَّار (اللصوص)، الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذىً شديداً، وأظهروا قطع الطريق، وأخذوا الغلمان والنساء علانية من الطرق، وكانوا يأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به، ولا يقدر أن يمتنع عليهم... ومشى الصلحاء من كل ربض ودرب فمشى بينهم أمثالهم، وقالوا: يا قوم! إنما في كل درب فاسق واثنان إلى عشرة، وعددهم بعد أكثر، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحد لقمتم هؤلاء الفساق واحتشموكم» (مسكويه، تجارب الأمم).

أما بالأنبار: «فقام رجل... يعرف بالدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، فشد على مَنْ يليه من الفساق والشطَّار فمنعهم ما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، فقاتلهم وهزمهم، وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم. ثم قام بغده رجل آخر من الحربية يقال له سهل بن سلامة الأنصاري...» (المصدر نفسه).

عاشت بغداد والأنبار والمدن الأخرى تلك الأيام مثلما تعيش اليوم باستباحات داخلية، حيث ظهر ما يعرف بالخفارة (رسوم حراسة)، وهي أن يأت جماعة من قاطعي الطرق ويفرضون الخفارة على الدور والأملاك، ومَنْ يمتنع عن دفعها يسرق وينهب. ولم ينقطع ذلك في السنة (201هـ) حتى تقدم شخص «علق مصحفاً في عنقه ثم بدأ بجيرانه وأهل محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس إلى ذلك الشريف منهم والوضيع... ثم طاف ببغداد: أسواقها، وأرباضها، وطرقها، ومنع كل مَنْ يخفره ويجبي المارة، وقال: لا خفارة في الإسلام» (نفسه). يفصل ما بين جناة الأمس وجناة اليوم أكثر من (1200) سنة، والسلوك هو في غياب السلطة وضعفها: قتل، وسرقة، واختطاف، وبالجملة هيمنة رعب. لهذا كان ظهور (الدريوش) زمانه، الشيخ ألبو ريشة، تكرار تجربة تستحق التأمل، لا أن يرمى الرجل بوصمة العمالة، أو يلخص فعله بأنه طالب مال وسلطة، ويا ترى مَنْ ينزه من المطلبين! الحقيقة، تحمل الرجل مسؤولية كسر حاجز الفزع، الذي هيمن على الأنبار، ومساحتها الممتدة من تخوم بغداد حتى تخوم الأردن وسوريا. وكان في مواجهة أخطر حركة إرهاب في التاريخ المعاصر، لا علاقة لها بتحرير العراق من احتلال بل على العكس خلقت أسبابه في أذهان ضحاياها.

ألبو ريشة عشيرة من قبيلة الدليم، التي عُرفت المنطقة الغربية باسمها في أول تقسيم إداري للدولة العراقية الحديثة. ذكرها الحسني في «العراق قديماً وحديثاً» بالاسم. وكان العزاوي ذكرهم في «عشائر العراق» بألبو حسين العلي، ورئيسهم فتيخان بن أبي ريشة. لقد أدرك ألبو ريشة أن احتلال القاعدة، أو ما يسميهم البعض بالمجاهدين، للعراق يعني هلاك البلاد. ولا يخفى كيف كانت مذابحهم وإساءاتهم سبباً في قبول التعاون مع الاحتلال الأمريكي، مثلما كانت مجازر ومظالم دولة البعث سبباً في تحول صورة المحتل إلى محرر. وأرى من العنت بمكان أن لا يبحث بأسباب انفلاق العراقيين تجاه إسقاط النظام عسكرياً، وتجاه مطاردة القاعدة بالتعاون مع الأمريكان.

لولا القاعدة وظهور الجيوش الدينية والميليشيات، والمجاهدين من قاطعي رقاب الأحياء والأموات، حيث مشهد الجنائز بلا رؤوس على طريق اللطيفة، لما وجدت عراقياً يستكين لجندي أمريكي. لكن الفزع من زرقاوي وبغدادي وأبي درع، وغيرهم من الذباحين، وحده يكفي مبرراً لتعاون أمثال ألبو ريشة مع الأمريكان. فعند الواقع المشوب بالموت اليومي، لا ينظر إلا في الأولويات، وهو رفع سيف «المجاهدين» المسموم من على رقاب العراقيين. لقد أعلن خليفة الزرقاوي «البغدادي» أنه لا يقتل ولا يتعرض لمَنْ خضع لشريعته، وبرأته محكمته!

إن وضع العراق المتداخل والملتبس لا يفاجأ ببروز وتصدي شخوص ليس لهم ذكر في عالم السياسة من قبل، في سلطة أو معارضة سابقتين، فالهتاف بالوطنية يجلب جماهير، وتكثيف الشعائر الدينية تجلب جماهير، والفزع من تبادل مقاتل طائفية له جماهيره أيضاً، كل هذا يجري تلقائياً، إلا التصدي للإرهاب اليومي، وعدو يأتيك من باب الدار ومن تحت الثياب، بحاجة إلى بصيرة، وهذا ما فعله الشيخ ألبو ريشة وصحبه في صحوة الأنبار، إنها الصحوة من هاجس الخوف المتمكن من النفوس.

قُتل الشيخ ألبو ريشة وهو ابن السابعة والثلاثين، لم يغز الشيب لحيته بعد، غارساً اسمه في أحلك حقبة، وأخطر بقعة من بقاع العراق، فمنها تريد القاعدة إشادة إمارتها، ومنها يصر البعثيون على العودة إلى سلطتهم، ومنها يعلن الأمريكان انتصاراتهم على الإرهاب العالمي!

[email protected]