رمضان زمان

TT

شهر رمضان هو أحب الشهور إلى نفسي، ومهما مرت السنون لا يمكن أن أنسى ذكريات رمضان الجميلة وروحانيات هذا الشهر الكريم، التي عشتها في قريتي الصغيرة التي تسمى «العبيدية» وتقع بين محافظتي المنصورة ودمياط. وكنا نجتمع بعد الإفطار حول جهاز الراديو لسماع مسلسل «ألف ليلة وليلة»، أما قبل الإفطار فكنت أذهب مع الصبية إلى عم يونس لنتعلم القرآن الكريم، وفي المساء نجتمع حول عم الدسوقي لنسمع قصص عنتر بن شداد وسيف بن ذي يزن. ونطوف بشوارع القرية وأزقتها بفوانيس رمضان التي تضاء بالشموع. وكان من عادة والدي رحمه الله أن يصحبني معه إلى المضايف حتى السحور. وكانت أغلب العائلات تجتمع في صالون المنزل ويلتف الجميع لسماع القرآن الكريم والحديث عن أحوال القرية ونأكل الكنافة والقطايف. وكنا ونحن صبية نقوم بتأليف المسرحيات الوطنية والكوميدية ونعرضها في ميدان القرية.

بعد ذلك عشت رمضان في القاهرة أيام الشباب، ولا تزال ذكرياته محفورة في ذاكرتي، فكنا نفطر يومياً عند مسجد سيدنا الحسين، وبعد صلاة العشاء والقيام كنا نذهب إلى المسارح أو نجلس على المقاهي نتسامر حتى موعد السحور. وعندما ذهبت إلى الأقصر للعمل مفتش آثار بمنطقة وادي الملوك، كان لرمضان طعم آخر وأنا أعيش بين مقابر الفراعنة وألتقي وزملائي الأثريين على مائدة الإفطار، ثم نذهب للجلوس في الفندق الذي يملكه الشيخ علي آخر عمالقة عائلة عبد الرسول الذين كانوا يعرفون أسرار الفراعنة وكشفوا عن خبيئة المومياوات عام 1881، ومنهم الصبي الصغير الذي كان يحضر المياه للعمال وعثر على مدخل مقبرة توت عنخ آمون...

وعندما ذهبت إلى فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية لنيل الدكتوراه وعشت هناك سبع سنوات، كنت أتناول الإفطار مع صديق لبناني وزميلة مسيحية من لبنان أيضاً، وذلك قبل أن تأتى زوجتي وأولادي للإقامة معي، وما زلت أذكر تلك المسيرات التى كنا ننظمها فى ذلك الوقت للاحتجاج على التصرفات العدوانية لإسرائيل في فلسطين أو لبنان..

إن الصيام بأمريكا له مذاقه الخاص الذي يختلف عنه في الشرق، فهناك عرفت العديد من الأمريكان الذين يصومون معنا لكي نفطر معاً، وكان الإفطار الجماعي له طعم خاص يقدم فيه أشهى المأكولات، أما الحاضرون فكانوا من مختلف الجنسيات، بل والديانات كذلك، فمنهم المسيحي ومنهم اليهودي. وكانت الأسر تتبارى فى إقامة الموائد الرمضانية، بحيث كنا نفطر كل يوم فى مكان مختلف..

وأجد نفسي الآن فى رمضان أكثر قدرة على الكتابة والإبداع، ففي هذا الشهر الكريم يزيد إنتاجي العملي والعلمي، واعتدت على الذهاب إلى عملي مبكراً، وبعد صلاة العصر أذهب لممارسة الرياضة. وبعد تناول الإفطار مع الأسرة أو مع الأصدقاء أنطلق لحضور الندوات الثقافية أو حفلات الموسيقى العربية، التي تقام داخل بيوت القاهرة الأثرية، كبيت السحيمي أو منزل الهواري أو داخل خيام الثقافة الجماهيرية.. وأجدنى الآن من عشاق حفلات السحور، التي يقيمها الأصدقاء، فهناك فرصة للحديث في الفن والأدب والسياسة... سيظل رمضان شهر العمل والعبادة.. وسيظل له طعم جميل مع ليالي القاهرة الساحرة..

www.guardians.net/hawass