العراق.. حراك يفضي للجمود !

TT

ربما ينظر الى الانسحابات الاخيرة من الكتل السياسية الرئيسية التي شهدتها الساحة السياسية العراقية على انها تمثل تطورا ايجابيا لصالح الممارسة الديمقراطية لجهة ايجاد معارضة ناشطة وفاعلة تراقب الاداء الحكومي وتجتهد لإيجاد برامج وسياسات موازية وتكون ايضا جاهزة بحكومة ظل لاستبدال القوى الحاكمة عند فقدانها لأغلبيتها، او هو حراك عابر للطوائف والاثنيات والتخندقات التي اوصلت البلد الى حالة من الشلل السياسي والأدائي، او هو تصحيح للسلوك الانتخابي الذي افضى الى اصطفافات دافعها الخوف من الاخر ومحفزها التحشد لتحصيل مصالح المكون او الفئة اكثر مما هي التقاء حول برامج ومشتركات، او هو اعادة لتصحيح المسار الذي اتخذته العملية السياسية والتي وصلت الى خانق بات عسيرا تخطيه، او لتخليص المركب الحكومي من حمولته الزائدة ومن القوى المتعارضة الراكبة فيه والمبحرة مسترشدة ببوصلات مختلفة، بغية ايجاد نوع من الانسجام الحكومي يقابله معارضة تقف بوضوح على الضفة الاخرى، اذ ان ما اصطلح عليه بأنها حكومة وحدة وطنية والتي مثلت فيها غالبية الكتل 94 % من اعضاء البرلمان انفرط عقد اطرافها وانحسرت المشتركات بين مكوناتها وباتت الاطراف وكلاء عن كتلهم السياسية ومكوناتهم الطائفية بدون ان يقتربوا من روح واداء الفريق الذي يستلزمه اي عمل حكومي ناهيك ان يكون ذلك في العراق وبمواجهة مصاعبه الاستثنائية.

ربما المبررات اعلاه تبدو هي الظاهرة عن بعد وأنها تبشر لاصطفافات جديدة عابرة للكتل وتحول بالممارسة من الولاءات ما قبل الوطنية الى العمل السياسي، وهي تشي بإعادة رسم للخريطة السياسية، الا ان الواقع غير ذاك فبعض الانسحابات من الحكومة بجانب اسباب اخرى فإنها اتت استباقاً لتقرير كروكر ـ بيتريوس بإظهار الحكومة فاقدة لتمثيل احد المكونات الاساسية اي التمثيل السني وهذا ما يخل بتمثيلها الوطني ويجعلها بعيدة عن الاقتراب من المصالحة الوطنية المنشودة، كما انها اتت من جانب البعض ظناً بان نتائج التقرير ستطيح بالحكومة.

الا ان احدث التصدعات والانشقاقات في الكتل هي انسحاب الكتلة الصدرية 32 نائبا من كتلة الائتلاف والتي سبقها بزمن انسحاب حزب الفضيلة 15 نائبا، وهذا ما قلل اغلبية الائتلاف الحاكم من 130 مقعدا الى 83 مقعدا، هذه الانشقاقات، رغم التعويلات الكثيرة عليها، الا انه لا اظن بأنها ستذهب بعيداً الى التحالف والاندماج مع كتل اخرى، اذ تظل المشتركات بين المغادرين وكتلهم الام هي الاكبر والأوسع من تلك التي قد تجمعهم مع الكتل الاخرى، فضلاً عن ان ذلك سيكون وبسبب من استمرار اجواء الاحتقان والمخاوف المتبادلة وعدم الثقة بمثابة انتحار سياسي ومهدد لفقدان القاعدة الشعبية اذا ما بدا البعض وكأنه يخون مصالح مكونة بظهوره كحصان طروادة في تقويض حكومته والمغامرة بالقفز للمجهول الى ازمة سياسية مفتوحة وفراغ لا يمكن ان يملأ الا بمزيد من المساومات وبفتح اليد لأطراف اقليمية نافذة لدعم هذا الطرف او ذاك.

من جهة اخرى فان هذه التصدعات والتشققات لم تطل قائمة واحدة او باتت مضعفة للائتلاف الحاكم فحسب، اذ على الجانب الاخر فان جبهة التوافق فقدت مع كتلة المصالحة والتحرير المتلاشية ثمانية من اعضائهما بخروجهم وتشكيلهم للقائمة العربية، ونفس الشيء ينسحب على القائمة العراقية برئاسة علاوي اذ ان ثلاثة من وزراء القائمة الاربعة رفضوا الانصياع لقرار رئيسها بالانسحاب من الحكومة، فضلاً عن الانسحاب اللاحق لبعض اعضاء الكتلة والتي لم تعد تضم الان غير 20 نائبا وهي تختزن تناقضات وانشطارات عديدة وهي مهددة بانسحابات اخرى عند اقرب منعطف.

على هذا المشهد يطل رئيسا الوزراء السابقان اياد علاوي وإبراهيم الجعفري من نوافذ مختلفة، فالأول يحاول العودة وفق صفقة المنقذ او بدعم ورافعة اقليمية، في حين ان الجعفري ينشد ذاك عبر الدعوة الى اعادة هيكلة الائتلاف بجمع القوى التي غادرته وجذب تلك الشاعرة بالتهميش وتشكيل ائتلاف مواز لذلك الذي تحالف مع الكرد ينفتح بطموح اكبر على مشروع وطني عابر للطوائف يستقطب الخارجين على كتلهم.

الا ان الحسابات الدقيقة للاوزان السياسية الجديدة للكتل والى المدى المحدود الذي يمكن ان تذهب له التحالفات واخذين بالاعتبار صعوبة الاتفاق على القيادات وما يحدثه ذلك من دوامة انشطارات مع تشرذم المعارضة المطيل لعمر الحكومة الضعيفة اصلاً، يفضي الى الاستنتاج بان ما ظن بأنه حراك سياسي وإعادة تشكل واعدة للخارطة السياسية، لا يعدو الا ان يكون جمودا اخر وانسدادا سياسيا، اذ وصلنا الى المعادلة المعوقة والشالة، اذ لا المعارضة ستمتلك الاغلبية التي تؤهلها لحجب الثقة عن الحكومة والإطاحة بها ولا الحكومة تمتلك الاغلبية الكافية التي تمكنها من ترميم نفسها وملء شواغرها وتمرير تشريعاتها.

وأيضا مبعث ذلك عجز الحكومة البين عن ايجاد تفاهمات جديدة توسع من دائرة دعمها البرلمانية المنحسرة بل على العكس رافق ذلك الاستمرار لتضييق دائرة صنع القرار الحقيقي واختزالها بلون واحد حتى ضمن المكون نفسه بما جعلها منفرة وطاردة لكل ما عداها، ولا الحكومة قادرة من جهة اخرى على تحقيق انعطافة هامة في ادائها ومنجزها تكسبها دعما جماهيريا في مواجهة الساعين للاطاحة بها، لذلك بات يتجاذب طرفي المعادلة معارضة متشرذمة عاجزة عن التمحور على مشروع وطني، وحكومة متكئة على تحالف هي الاضعف فيه، وهذا اخر ما يحتاجه ويحتمله الوضع العراقي الذي يتطلع الى دفق عمل ووحدة مسار لا يضعه عليها الا حكومة رشيدة ومعارضة راشدة.