الإسلام السياسي والمؤسسة الأمنية (2/2)

TT

ضاق النظام العربي ذرعاً بالمؤامرات الانقلابية ضده في الخمسينات والستينات. راحت المؤسسة العسكرية المفترض أنها حارسة وحامية له تشكل خطرا جسيما على استقراره واستمراره. وهكذا، ولدت المؤسسة الأمنية المخابراتية ولادتها الثانية. وُظفت في تطوير المؤسسة الجديدة أساليب في الاستخبار وتقنيات تحقيق وتعذيب مستوردة معظمها من بلغاريا ودول العالم الشيوعي.

أخيراً، أحكم النظام حماية نفسه. باتت المؤسسة الأمنية رقيبة حتى على المؤسسة العسكرية، ومقدمة عليها في الثقة المطلقة. غير أن تطوير المؤسسة المخابراتية كان شؤما ووبالا خطيرا على العرب. نجح العرب في التحرر من الاستعمار، لكن اختنقت في المهد محاولتهم لنيل الحرية في زمن الاستقلال.

قيامة الاخوان في سبعينات العصر الساداتي، وعودة الاسلام الجهادي والطالباني من أفغانستان منتشيا بنصره على «الكفار»، ساهمتا أيضاً في احتضار الحرية السياسية. بأساليبها القمعية المروعة، حلت المؤسسة الأمنية محل المؤسسة العسكرية، في معظم العالم العربي، في مكافحة الخطر الجديد، خطر الإسلام السياسي المتزمت الرافض بدوره لهذه الحرية، باعتبارها سلعة مستوردة كافرة بـ«الحاكمية الإلهية».

الديمقراطية هي التقنية الآلية لصناعة الحرية. إذا كان الإسلام السياسي والجهادي، في حربه «المقدسة» على النظام العربي، قد لعب دورا فاعلا في إضاعة الأمل والفرصة أمام ولادة حقيقية للحرية السياسية والاجتماعية، فقد ساهمت المؤسسة المخابراتية في تزييف الديمقراطية: حكام يجرى التجديد لهم بأغلبية 99 بالمائة. مؤسسات نيابية صورية منتخبة بتوزيع «الكوتا» بين الحزب الحاكم وأحزاب «الكورس» الرديفة له. هيئات نقابية برئاسة نقابيين مخابراتيين. سلطة قضائية فقدت استقلالها وثقة المجتمع بعدالتها. حكومة رئيس وزرائها، في إلغاء السياسة، مجرد «باشكاتب» لدى «القائد الأوحد المفكر والمقرر».

شبحان تقاتلا في ظلام دامس. كل منهما يتقن السرية التامة. خلايا الاجتهاد الانتحاري سبحت في مجتمع غافل عنها، بفعل تسخير النظام السياسي للمؤسسة الدينية التقليدية في «دروشة» ملايين المؤمنين، و«تسطيح» إيمانهم بالإلحاح على إقامة الشعائر (الطقوس)، من دون إنعاش للعقول.

أما المؤسسة الأمنية فقد خاضت في البداية حربا صامتة ضد هذه الخلايا، اعتقادا منها ومن النظام الرسمي بأن المعركة مجرد ملاحقة أمنية لمجرمين عاديين يعبثون بالأمن والقانون. ويمكن تحقيق النصر في هذه المطاردة بمجرد اعتقال «الأشباح»، أو اطلاق الرصاص عليها في مخابئها.

صب الرئيس بوش الزيت على النار بإعلان الحرب على الارهاب «الديني». كان غزو العراق بعد أفغانستان أكبر خدمة قدمتها أميركا إلى الإسلام الجهادي. فقد استوطنت خلاياه العراق. بات صوت ابن لادن مسموعا في عالم عربي ازداد كراهية لأميركا سيئة السمعة بانحيازها لاسرائيل وبتفجيرها مأساة ملايين العراقيين ضحايا الاحتلال الأجنبي والاقتتال المذهبي. ها هم الآن ضحايا الكوليرا الكردية الزاحفة من الشمال إلى بغداد.

أخيرا، أفاق النظام العربي ومؤسسته الأمنية والدينية على ضرورة الخروج إلى العلن والملأ بالمعركة الصامتة على الإرهاب، واشراك المجتمع في المطاردة والمراقبة. ساعد على ذلك تذمر المجتمع من تقشف التطبيق للشريعة في الإمارات «الطالبانية» التي أقامها الاسلام الجهادي في تورا بورا الأفغانية والباكستانية والعراقية والجزائرية.

المدهش ان هاتين المؤسستين (الدينية والمخابراتية) نجحتا في تحقيق اختراق محدود لخلايا وبؤر الاسلام الجهادي في المعتقلات والسجون، لكنه مهم للغاية. أدى حوار الزنزانات الى توبة حركات دينية متزمتة في مصر والسعودية.

المؤسف ان العفو المتسامح الذي قدمه نظام بوتفليقة الجزائري الى خلايا اسلام تورا بورا الجزائرية لم يحقق أمل الجزائريين في استئصال الإرهاب، الأمر الذي أحرج النظام أمام مؤسسته الاستئصالية الأمنية / العسكرية. ها هو العنف الديني يعود ليصبغ الجزائر بصبغة الدم الأحمر القاني التي صبغ بها ابن لادن لحيته.

قلت ان هذا الاختراق الفكري لحركات الاسلام الجهادي محدود، لأنه لم يترافق مع انفتاح فكري وثقافي واسع. ما زالت الرقابة شديدة الوطأة على الكتاب السياسي والفكري، فيما تتمتع تفاسير الاجتهاد الحربي في القرون الوسطى بحرية الحركة عبر الحدود وفي معارض الكتاب. ما زالت الاجتهادات الالكترونية المتزمتة الداعية الى تمزيق مذهبي وطائفي للمجتمعات العربية تباع على الأرصفة، وتنشر على شاشة الانترنت.

تَمَّ تحييد المسجد سياسيا في معظم البلدان العربية. لكن الغريب أن معظم مشايخ و«فلاسفة» العنف الديني ما زالوا قادرين على نشر أفكارهم التكفيرية والمتزمتة، ودفع ألوف الشباب الى الانتحار الجهادي ونحر المؤمنين و«الكفار» بالأحزمة والمتفجرات الناسفة. تجرى ملاحقة الفاعلين، فيما يبقى معظم الأئمة المحرضين في مأمن وسلام، وفيما لم يتم بشكل حاسم منع تسريب التمويل الرأسمالي الى المدارس الدينية الباكستانية و«قاعدة» ابن لادن، هذا التمويل الذي يشارك فيه سرا مؤسسات خاصة ورجال مال وأعمال.

أسأل نفسي وأنا أرى وألمس، بحكم إقامتي الطويلة في منفاي الأوروبي، هذا التزمت الديني الصارخ الذي يلف «الغيتوهات» العربية والإسلامية في أوروبا: لماذا لا تنافس الديبلوماسية العربية مشايخ ودعاة التزمت والانتحار في التقرب والاقتراب من هذه الجاليات المخدوعة؟ هل السبب الرفاهية المكتبية الكسولة والمعزولة؟

ثم أعود لأجيب عن تساؤلي: الديبلوماسية العربية لا تستطيع أن تتحرك في الفراغ. لا تستطيع أن تدعو الى مجرد الايمان والتعلق بالنظام العربي الذي لا يحمل هوية وانتماء وأفكاراً.

العالم آيديولوجيات وفلسفات وعقائد. العرب اليوم بحاجة إلى آيديولوجيا منفتحة. نحن بحاجة الى استعادة الهوية. الى تأكيد الانتماء. لماذا تذهب صيحة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز في قمة الرياض هباء؟ لماذا لا يلتقط الإعلام العربي والمثقف العربي دعوته الى التركيز على الهوية العربية والانتماء القومي؟

بصراحة، العرب بحاجة الى الانفصال عن إسلام أجنبي وأعجمي فهم الدين تزمتا وتكفيرا وعنفا وانتحارا. في سنَّتهم الصريحة البسيطة، فهم العرب روح الإسلام. زاوجوا في شخصيتهم التاريخية وبنوع من العقلانية بين عروبتهم ودينهم. النظام العربي بحاجة الى هوية وانتماء. نحن بحاجة الى عروبة هادئة واعية، عروبة انسانية غير شوفونية مباهية بقوميتها، وغير عدائية ومتعصبة ضد أقلياتها العرقية والدينية.

لا فائدة من محاربة آيديولوجيا التزمت بعصا الأمن فقط على المدى الطويل. المؤسسة الأمنية / العسكرية لا تدرك أنها تدافع أصلا عن أصالة الهوية. بل لا فائدة ترجى من حرية وديمقراطية بلا قاعدة فكرية وثقافية ثابتة. نحن بحاجة الى توحيد مناهج التعليم العربية لتربية الأجيال من المحيط الى الخليج على وعي الانتماء الى أمة تاريخية.

فلول القوميين العرب (المؤتمر القومي العربي) لم تستفد من عبرة انهيار المشروع القومي بسبب لا ديمقراطيته. ما زال هناك تَوْقٌ وتحسر على الأشخاص. هناك ذرف غزير لدموع التماسيح على صدام. لست مع قمع حرية الصحافة بقوة القانون، إنما الكتاب الذين يسخرون من عروبتهم بأوصاف «القومجية» و«الوطنجية» هم في الواقع يسخرون من أنفسهم، ويشجعون دعاة التنكر للهوية على ممارسة إيذاء الشعور الوطني والقومي.

أيضاً، لا بديل عن الانتماء الأوسع والأعمق. الآرامية والسريانية والفينيقية والفرعونية حضارات ماتت وشبعت موتا. خلدّت الفرعونية عبودية الانسان للموت وللفرعون بأنصاب ضخمة شاهدة على الفن، بقدر ما هي شاهدة على ذل الانسان للإنسان. أعز الله العرب بتعريب مصر. حاول الاستعمار الحديث فصل مصر عن عروبتها بنشر «ثقافة» الفرعونية، وبنبش الأضرحة ومومياوات الموتى. الفراعنة الجدد يتناسون أن العروبة ثقافة، قبل أن تكون عرقاً عصبياً ودماً لعدنان وقحطان وأدونيس ورمسيس وتحتمس وحتشبسوت يجري في العروق.