العراق.. جمرة تحت الرماد!

TT

واقع الحال، ليس في الظاهر من أخبار العراق سوى العتمة، حتى يكاد الأمل ينعدم بما تقاد إليه البلاد، وكأن الأرض خلت من وشلة خصوبة، ولم تعد وَلاّدة للعقول والأرواح الحية، كما عهدتها الأزمنة، وأمسى الموت سيد المرحلة. ومع كل مبررات هذا الانكفاء والانكسار، هناك ما يبرر التفاؤل أيضاً، على الرغم من ضآلته، وقلة مردوده بالمنظور القريب.

يتلمس الباحث عن الأمل جزراً، من التحضر والتمدن والمواطنة السوية، تقاوم وسط هذا الخراب، يمثلها جيل من الشباب الواعد، وصفه أحد الأصدقاء بالجمرة، ينبع بالمدن والأرياف. جيل لسعته الحروب، وأجاعه الحصار، وفتح عينيه على مجازر تعرض على شاشة التلفاز، حتى أصبحت لعبته المفضلة الرشاش والمسدس، ويتخاطب بمفردة الرفيق، التي تعني لديه الموت فداءً للقائد. بعدها وجد نفسه وسط ميليشيات وجيوش مروعة، تطارده باسم الدين، وتحصي عليه أنفاسه. تبدلت الشخوص، لكن الهتاف «نفديك بالروح والدم» هو هو. نزلت صورة وارتفعت فوق رأسه صور، تأمره بالطاعة لقائد أيضاً!

السؤال، كيف اهتدى هذا الجيل، المغلوب بالظلام، إلى تلمس الطريق إلى كل هذا النور، ويحافظ على توازنه الروحي والعقلي؟ هل يتعلق الأمر بقدرة أرض العراق على الولادات الجديدة رغم ما يحدث؟ وهل تتوارث الأجيال رقي الأزمنة الحضارية عبر الماء والهواء؟ جيل ينظر بنقمة إلى بيان طائفي أصدره (دكاترة) بلندن، درسوا بجامعات بريطانية وأمريكية راقية. ونقم، بالفعل نفسه، من مؤتمرات الإرهاب تحت عنوان (المقاومة والجهاد). ولا يكتم غضبه على فعلة المندوب السامي بول بريمر بهد الدولة وإحالتها إلى انقاض. إنه جيل يفكر بعمق ويتلمس الأشياء والأحداث بروية. جيل قد يقلب الموازين إذا ما اتيحت له الفرصة ونما.

أتاحت لي الدورات الدراسية لـ«معهد الدراسات العراقية» ببيروت أخيرا اللقاء بجمهرة من هؤلاء الشباب القادمين من مختلف مدن العراق، ومن ولادات الثمانينيات، اختيروا وفقاً لوثائقهم الدراسية خارج الانتماء الديني والمذهبي والقومي. وقد دأب المعهد المذكور على انجاز هذه الدورات لإعداد جماعات من الباحثين الشباب، يدرسون فيها طرق البحث في مختلف العلوم، وأسس التسامح الاجتماعي والديني، وفك النزاعات، وهم أحرار في ما يبحثون، كلاً حسب هوايته وطاقته. وكانت حصتي من التدريس هي التعايش الديني وموجبات التسامح المذهبي. كنت متوجساً من شباب ولدوا وعاشوا وسط انكسارات متتالية. لا أعلم ما يغلب على تفكيرهم، آخذاً أسوأ الاحتمالات بأنهم يحملون ممارسات تحبط الحديث حول تعايش، وحول هذا الدين أو ذاك المذهب. لذا جعلت الحصة الأولى أكثر عمومية، وهي الإبحار في ثوابت جغرافيا العراق، بحجة انه لا بد من ملامسة تاريخ هذه الأرض، ومَنْ نزلها من أهل الأديان والمذاهب.

بعد الحصة، التي لا تعدو جسَّ نبض وكشفاً، وجدت نفسي أمام حجة قوية بأن العراق ليس خاليا من فطرة التنوير والأمل. طوال أسابيع الدورة لم أتمكن ولا بقية الزملاء من معرفة مَنْ هو الشيعي ومَنْ هو السُنِّي، ومَنْ هو المسيحي، ومَنْ هو الكوردي، إلا من الأسماء والمناطق. حضروا شباباً وشابات ـ حاسرات ومحجبات ـ لم تتمكن بيروت بتقدمها الاجتماعي والثقافي من فرزهم بأنهم قدموا من بلاد تلعب جماعات التخلف بمقدراتها، مع أنهم لم يخرجوا من أسوار مدنهم المتعبة إلا هذه المرة.

تحدثوا كثيراً عن تضامن اجتماعي يسود بين العراقيين بعمق، عن شيعي وسُنُّي ومسيحي وصابئي، شركاء في مشروع واحد، سجلوا المكان بأسمائهم جميعاً، وكل ورقة على انفراد، وعند تعرض المكان لهجمة من ميلشيا شيعية يبرز الشيjjعي ورقته، وعند الهجوم من ميلشيا سُنِّية يبرز السُنِّي ورقته، والمسيحي والصابئي في عهدة الاثنين.

تعايشت معهم في قاعة الدرس والسكن، ولم أشعر بما يعكر صفوهم، مع أن صاحبهم الشبكي يلح بأخذ الاعتراف باستقلالية قومه على أنهم ليسوا عرباً ولا كورداً، وينتهي الأمر بضحكات ودٍ بين الجميع. هذه الجماعة، وهي عينة لا يستهان بها، دليل على أن جيلاً ينهض من تحت الرماد كالجمرة، مع أنه لم يغادر العراق، بخلاف ما ترسمه القوى المهيمنة لمستقبل كالح. جيل استنبط عراقيته وثقافته ونظرته التنويرية من العتمة، التي أُُطلقت أجنحتها منذ عقود، تخفق بلا كلل فوق الرؤوس.

كم تبدو الصورة قاتمة عما يجري ببلادهم، وأن الظلمة هي الغالبة، والجهل والانحطاط غرسا جذورهما عميقاً في الأرض. إلا أن من عوائد الشدائد والمحن ولادة نقائضها، هذا ما نقرأه ببساطة في كتب «الفرج بعد الشدة». كانت تجربة «معهد الدراسات العراقية» المستمرة غنية، لم تفكر فيها أحزاب وكيانات ولا الدولة نفسها، وإن حصل لا يجد الدارس غير المنتمي مقعداً له لدى هذا الحزب أو ذاك.

«إن ساحة مثل ساحة العراق، وبهذا الإرث الحضاري، أراها لن تستكين لكائنات الظلام» هذا ما قاله لي أحد الطلبة وهو من مواليد 1986. كان يحمل بين يديه كتباً انتقاها بمعرفته من مكتبات بيروت لبحثه في قضية من قضايا حاضر العراق الفواصل. أخيراً، لا تحسبوا تفاؤلي بهذه الشريحة وهماً، فعزاء الظمآن قطرة، أو حتى خفقة سراب!

[email protected]