القلب.. لا اللسان

TT

لا يستطيع الإنسان أن يكون كل الناس ـ إلا، طبعاً إذا كان زعيماً عربياً ـ لا يستطيع أن يكون غاندي واينشتاين ونابوليون وشكسبير وهنري فورد وبيكاسو، في وقت واحد وزمن واحد وعمر واحد. ولذلك كان أعظم الرجال في التاريخ الإنساني مزيجاً من الخطأ والصواب. من العبقرية والعادية. من التفوق في حقول والقصور في حقول.

أعجبت بتكرس الحبيب بورقيبة لشعبه وبلده. لكنني كنت اضحك في سري عندما أراه على التلفزيون كل يوم يلقن التونسيين كيف يجب أن يعيشوا وما هو الغذاء الأنسب لهم. ويومها كان في تونس ألوف الأطباء والأساتذة وأهل العلوم. وكان على التلفزيون رجل واحد، وهو بطل الاستقلال وأبو تونس الحديثة، الذي أصر على أن يكون أيضاً أستاذها ومعلمها ومرشدها وفيلسوفها. وكان ذلك كثيراً على بلد أعطى هنيبعل وابن خلدون.

وقرر رئيس عربي أن يدخل عالم اختراع السيارات. وبعث صوراً ملونة في هذا الأمر. وفي جملة ما اقترح من تغييرات على الأمة الانصراف عن مطولات أم كلثوم.

وكاد الرأي يكون صحيحاً لو أن الأمة أعطيت أم كلثوم أخرى تؤدي «المقصرات»، وتغني موجز «سلوا قلبي»، و«كوبليه» فقط من إبراهيم ناجي.

أعدت قراءة نصوص الخطب التي ألقاها غاندي، في محاولة للتعرف ـ بتأنٍ ـ إلى أفكار بعض العظماء وإلى أسلوبهم في مخاطبة الناس، أو حتى إلى أولئك الذين كانوا يكتبون خطبهم ويصوغون أفكارهم. ومن خلال تلك الخطب، أو بالأحرى النصوص، أسعى إلى معرفة أعمق للرجل والمرحلة والأحداث التي كانت تجرفه أو يجرفها. وبرغم المهابة التي يشعر بها الإنسان وهو يستعيد سيرة غاندي، فقد بدا لي بعيداً قصياً عن استقراء المستقبل في خطاب ألقاه في باريس 1916، كان يهاجم يومها الإنكليزية، لغة المستعمر، فقال «هل هناك رجل يحلم بأن الإنكليزية يمكن أن تصبح لغة البلاد؟ لماذا هذه المعوقة تلقى على الأمة؟ إنهم يتهموننا بافتقارنا إلى المبادرة. كيف يمكن أن تكون لنا مبادرة إذا كنا سنكرس كل تلك السنوات الثمينة لتعلم لغة أجنبية».

الإنكليزية، الآن، هي اللغة التي حررت الهند من الاستعمار الاقتصادي واستعمار واحتلال الفقر. وهي التي مكنت المهاجرين الهنود من التفوق على سواهم في أنحاء العالم. وهي لغة أهم الصحف الهندية الكبرى. وهي لغة المصانع العالمية الضخمة التي انتقلت من أميركا وأوروبا إلى الهند. وهي اللغة التي يغزو بها الصناعيون الهنود كبريات أسواق الغرب. وبالإنكليزية يتعامل الهندي مع الشركات الفرنسية والروسية التي يشتريها.

ولا يزال هندياً. بشرته هندية وعروقه هندية وعمامته سيخ وقنبلته الذرية هندية وحروبه الداخلية المتوحشة هندية خالصة. لا أحد يقول إن نهرو خريج كمبريدج، بل أنه زعيم الهند. ولا أحد يقول إن نايبول أشهر كاتب إنكليزي، بل أشهر كاتب هندي. ولا أحد يقول إن الأغنياء الخمسة الأول في بريطانيا بريطانيون، بل هنود. باتل وميشال وجنشنمال ولال، أو شيء من هذا القبيل.