الإخوان في برنامج حزبهم.. ظالمون ومظلومون

TT

اثار برنامج الحزب الذي أعلنته جماعة الاخوان المسلمين في مصر تعليقات كثيرة، خصوصاً أن مشروع البرنامج وزع على عدد غير قليل من aالمثقفين لإبداء الرأي فيه، قبل أن يصدر في صيغته النهائية. وفي حدود ما نشر حتى الآن في مصر على الأقل، فإن الأغلبية الساحقة من التعليقات جاءت سلبية، حيث وجهت سهام النقد الى البرنامج في ثلاثة مواضع هي: النص في البرنامج على هيئة من كبار العلماء يجب ان تستشيرها السلطة التشريعية فيما تصدره من قوانين الأمر الذي اعتبره البعض تكريساً لفكرة الدولة الدينية – الموقف من الأقباط ـ الموقف من المرأة. وبالتركيز على هذه النقاط فإن التعليقات في مجموعها ثبتت من الصورة النمطية التي تشكلت في الأذهان، عن الحركات الإسلامية التي يساء الظن بمشروعها دائماً من قبل البعض، ولا يكاد يذكر لها اسم إلا وتتهم في هذه المواضع الثلاثة.

النقطة الأولى استأثرت بالاهتمام الأكبر سواء من جانب الذين لا يرون في المشروع الإسلامي إلا استنساخا للدولة الدينية في الخبرة الأوروبية، ومن ثم فإن لديهم أحكاما راسخة مسبقة في هذا الصدد، ليسوا على استعداد لتغييرها، أو من جانب بعض العقلاء الذين قرأوا البرنامج قراءة متعجلة، وصدمتهم الإشارة إلى هيئة كبار العلماء والدور المنوط بها، فاصطفوا مع الناقدين، ووجهوا سهامهم بدورهم إلى البرنامج، منددين بموقفه ومحذرين من انزلاق الجماعة نحو تبني فكرة الدولة الدينية. وكانت النتيجة أن اجتمع على نقد البرنامج والتشهير به المغرضون وبعض المخلصين، برغم اختلاف ودوافع ومقاصد كل منهما.

في الأسبوع الماضي نشرت على هذه الصفحة مقالة قدمت نموذجاً لما نتحدث عنه، كان محورها وعنوانها هو: دولة الإخوان الدينية في مصر. وقد حدد كاتبها موقفه مقدماً حين ذكر في البداية أن الجمع بين الدين والدولة فاشية من نوع جديد وحين دخل في الموضوع قال إن برنامج الإخوان مزق إرباً كل المفاهيم المتعلقة بالدولة المدنية، وأقاموا مكانها دولة دينية، تستبعد غير المسلمين من الوظائف العامة، وتقيم هيئة دينية لها المرجعية العليا في القرار، على الأقل في الأمور قطعية الثبوت والدلالة.

هذه الفكرة عبر عنها أكثر من تعليق، بأساليب اختلفت باختلاف موقف كل كاتب، وجميعهم استندوا إلى نص ورد في الفصل الخاص بالسياسات والاستراتيجيات من البرنامج يقرر أن مرجعية الشريعة الإسلامية تطبق بالرؤية التي تتوافق عليها الأمة، من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية المنتخبة انتخاباً حراً.. ويجب على السلطة التشريعية من ذوي الخبرة والعلم في سائر التخصصات.. ويسري ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية.. ويكون للسلطة التشريعية في غير الأحكام الشرعية القطعية القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة على رأي الهيئة. ولها أن تراجع الهيئة الدينية بإبداء وجهة نظرها فيما تراه أقرب الى تحقيق المصلحة العامة».

هذا النص أثار دهشتي، لأنه يبدو غريباً على خطاب الإخوان، الذي خلا في كل أطواره من الإشارة الى مسألة السلطة الدينية. بل إن الحركة ذاتها لم تجسد هذه الفكرة على مدار تاريخها، إذ باستثناء مؤسسها الشهيد حسن البنا الذي كان من خريجي كلية دار العلوم، فإن مرشديها الستة الذين تعاقبوا بعد البنا لم يكن أحد منهم من علماء الدين، فثلاثة منهم كانوا من خريجي كليات الحقوق (حسن الهضيبي وعمر التلمساني ومأمون الهضيبي) والرابع من خريجي كلية العلوم (مصطفى مشهور) والخامس من ملاك الأراضي الزراعية (حامد أبو النصر) والمرشد الحالي محمد مهدي عاكف من خريجي المعهد العالي للتربية البدنية. حتى مكتب إرشاد الجماعة ظل 90% من أعضائه من المهنيين والتكنوقراط، ولم تزد نسبة الأزهريين فيه على 10% طيلة نصف القرن الاخير.

المفاجأة الأكبر وقعت حين راجعت نسختين لبرنامج حزب الإخوان، الأولى أشير إلى أنها «الإصدار الأول»، وقد وزعت على عدد محدود من الباحثين في شهر أغسطس الماضي. وهي والثانية ـ جرى التنويه إلى أنها «القراءة الأولى» ـ التي وزعت في شهر سبتمبر الفائت على عدد أكبر من المثقفين. إذ اكتشفت أن «الإصدار الأول» خلا من كل الإشارات التي أثارت اللغط والجدل. ولم أكن بحاجة إلى بذل جهد لملاحظة أن لغة «الإصدار الأول» اختلفت عنها في «القراءة الأولى»، وأن النسخة الأولى كان واضحا فيها تأثير المتمرسين بالعمل السياسي، في حين النسخة الثانية وضحت فيها بصمات المنشغلين بالدعوة، الذين يعانون من ضعف الإدراك السياسي، وإذا صح ذلك فإنه يكشف ربما لأول مرة في العلن عن وجود تيارين على الأقل داخل قيادة الجماعة، أحدهما إصلاحي منفتح والثاني محافظ ومنغلق. ويبدو أن كفة التيار الثاني هي الأرجح في دائرة القرار، بدليل أن عناصره استطاعت أن تضيف رؤيتها وتفرضها في النسخة الثانية من البرنامج التي وزعت على نطاق واسع، وحملت عنوان «القراءة الأولى». وفيما علمت فإن الإصلاحيين فوجئوا بإضافات المحافظين على البرنامج، الأمر الذي يدعونا الى القول بأن الرؤية السياسية داخل الجماعة لم تنضج بعد، وأن الحوار بين قياداتها مطلوب لبلورة تلك الرؤية، قبل إجراء الحوار مع المثقفين ونخبة المجتمع الذين وزع عليهم البرنامج.

تسوغ لي هذه الخلفية أن أدعي بأن الإخوان في البرنامج بدوا ظالمين ومظلومين في الوقت ذاته. هم ظالمون لأنه أساءوا التعبير عن أنفسهم، وقدموا صيغة لبرنامج وفر للمتصيدين ذخيرة استخدموها في تخويف الرأي العام وإثارة النفور من الجماعة. وقد سبقت الإشارة إلى أن أصدقاءها المتفهمين لأوضاعها وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى التنديد بالبرنامج. وكانوا محقين لدرجة كبيرة فيما ذهبوا إليه. وإذا سألتني لماذا هم مظلومون فردي أن ذلك راجع إلى أمرين: الأول أن النصوص التي انتقدت في البرنامج لم تكن بالتعاسة التي صورت بها، والثاني أن تلك النصوص التي استأثرت بالاهتمام حجبت نقاطا ايجابية في البرنامج لم يلتفت إليها أحد.

خذ مثلاً فكرة هيئة كبار العلماء التي أثيرت من حولها الضجة الكبرى، وأعتبرها فكرة ساذجة لا لزوم لها في الدولة الإسلامية المفترضة، لأن إعداد القوانين في أي دولة ديمقراطية يمر بقنوات ولجان تتحقق من صوابها من جوانب عدة، داخل البرلمان أو مجلس الدولة، ولا حاجة لتأسيس كيان جديد من خارج تلك المؤسسات للقيام بمهمة عدم تعارض القوانين مع الشريعة. مع ذلك فليس صحيحاً أن قرار هذه الهيئة المقترحة ملزم، كما أنها لا تمثل مرجعية عليا في شيء، كما ادعى البعض. فالنصوص واضحة في أن رأي الهيئة استشاري، والمجلس النيابي المنتخب هو السلطة الوحيدة التي لها حق إصدار التشريعات، وللمحكمة الدستورية العليا سلطة الفصل فيما إذا كان القانون مطابقاً للدستور أم لا، بما في ذلك مادته الثانية المتعلقة بمرجعية الشريعة للقوانين، وهو النظام المعمول به حالياً في مصر.

خذ أيضاً الموقف من الأقباط، الذي جرى التعسف في تفسيره على نحو يصعب افتراض البراءة فيه، حين ذكر كاتب مقال الأسبوع الماضي الذي سبقت الإشارة إليه أن البرنامج يستبعدهم من تولي الوظائف العامة، واستطرد مشيرا إلى أنه « يكاد» يستبعدهم من حق الدفاع عن الوطن، الأمر الذي يفتح الباب لعودة فكرة الجزية مرة أخرى. وهو أسلوب في النقد مسكون بالتضليل والتدليس. ذلك أن الإشارة إلى غير المسلمين وحظوظهم من الوظائف العامة وردت في الجزء الخاص بمدنية الدولة، الذي تحدث صراحة عن أن تولي الوظائف في الدولة الإسلامية يتم على أساس من الكفاءة والخبرة. وسبقته إشارات أخرى إلى أن المواطنة هي الأساس وأن جميع المواطنين سواء في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والجنس. غير أن معدي المشروع استثنوا منصبي رئيس الدولة ورئيس الوزراء من الوظائف التي يتولاها غير المسلمين، واستندوا في ذلك إلى أن للدولة الإسلامية وظائف دينية، يعفى منها غير المسلم وقد يسبب القيام بها حرجاً عقيدياً له. وأرادوا بذلك أن يسوغوا استئثار المسلمين بهذين المنصبين فقط. وهو ما يعني أن ما قيل عن حرمان غير المسلمين من تولي الوظائف العليا لا أساس له من الصحة، وأن حكاية الحرمان من الوظائف العسكرية والعودة الى نظام الجزية، هي من قبيل الاختلاف الذي أريد به التشويه لا أكثر.

بالمناسبة فإن فكرة الاحتفاظ بمنصب رئاسة الدولة لأتباع دين معين ليست بدعة في الدساتير الحديثة. إذ هي موجودة في اليونان والدنمارك وإسبانيا والسويد وانجلترا وبعض دول أمريكا اللاتينية. أما إضافة منصب رئيس الوزراء، وقصره على المسلمين دون غيرهم، فهي من أصداء الفكر التقليدي المحافظ الذي عبر عنه الماوردي في «الأحكام السلطانية»، حين فرق بين وزير التفويض (الذي يقابل رئيس الوزراء) ووزير التنفيذ، واشترط الإسلام في الأول دون الثاني. وهي الفكرة التي تم تجاوزها عند الباحثين المسلمين المعاصرين، الذين اعتبروا أنه لا وجه للمقارنة بين وزير التفويض في الازمنة القديمة وبين رئيس الوزراء في زماننا. حتى رئاسة الدولة التي يميل أغلب الفقهاء والباحثين على أن تبقى للمسلمين في الدولة الإسلامية، هناك أكثر من اجتهاد بصددها. حيث يذهب كثيرون ـ منهم الدكتور يوسف القرضاوي ـ أن ذلك لا يحول دون حق غير المسلم للترشح لهذا المنصب.

أما موضوع المرأة، فالبرنامج لم يعترض على توليها الوظائف العامة، وإنما دعا إلى حوار يحدد التفاصيل، بحيث يتم التوصل فيه إلى «توافق مجتمعي تشارك فيه المرأة والرجل بالرأي والقرار» ـ في حين ارتأى واضعو البرنامج ضرورة الاحتفاظ بمنصب رئيس الدولة وحده للرجل، لأن أعباءه لا تناسب المرأة. وهي مسألة اجتهادية لم تحسم تماماً في أوساط الباحثين المسلمين.

فضلاً عن ذلك فإن البرنامج لم يخل من إشارات إيجابية، تمثلت في أمور عدة منها ما يلي:

ـ رفع التناقض بين الشورى والديمقراطية، واعتبار أن الديمقراطية بمعنى المشاركة والمساءلة هي من صميم الشورى.

ـ تأكيد أهمية تداول السلطة ـ تأكيد مدنية الدولة ـ التمسك بالتعددية السياسية مع إطلاق تشكيل حرية الأحزاب دون اشتراط موافقة السلطة.

ـ الدعوة إلى إقامة الوحدة العربية قبل التوجه إلى الوحدة الإسلامية.. وفي ذلك تفصيل كثير، لا مفر من الاطلاع على نص البرنامج للوقوف عليه.