إذا كانت الجينات جزءا من قدر الانسان لأنها تحدد معالم شخصيته وصحته، بل وقسمات وجهه فإن التاريخ والجغرافيا جزء من قدر الشعوب. الجزر البريطانية بحكم انها جزر يفصلها بحر المانش عن القارة الاوروبية لم تتعرض للغزو او لحكم اجنبي منذ الغزو النورماندي في عام 1066. وتفنن الحكام عبر الأزمنة والعصور في حماية استقلال بريطانيا وقوانينها ومؤسساتها وانتماء المواطن للدولة.
وقد لعبت الجغرافيا دورا في تاريخ بريطانيا. فهي جزر قليلة الموارد ولذلك خرجت الاساطيل والجيوش بحثا عن تلك الموارد في أماكن أخرى. ولا شك ان تاريخ مصر مع التدخل الاجنبي هو ايضا جزء من تأثير عوامل الجغرافيا. فبحكم موقعها كانت ولا تزال مطمعا للطامعين، اما بالغزو كما فعل الهكسوس أو بالوصاية كما فعل الانجليز. فقد فرضت بريطانيا الحماية على مصر بسبب فخ نصبته الحركة الصهيونية، متمثلة في بنك روتشايلد ورئيس الوزراء الإسرائيلي، طمعا في بسط النفوذ على موقعها الحيوي.
خلال شهر رمضان، تابعت مع من تابع مسلسل «الملك فاروق» الذي يقدم جزءا من علاقة مصر ببريطانيا اثناء الحرب العالمية الثانية والى قيام ثورة 1952. ولاحظت ان كاتبة السيناريو الدكتورة لميس جابر، استعانت بمؤرخ لمراجعة الاحداث التاريخية، توخيا للصدق. ولذلك استوقفتني الصورة التي يقدمها المسلسل للحياة الحزبية في مصر في الاربعينات، خصوصا تلك الانقسامات بين الزعماء و تبادل الاتهامات والتسابق على النفوذ والمناصب والامتيازات.
لم تكن مصر طرفا في الحرب ولكنها كانت تواجه خطر روميل وعجرفة لامبسون وتهديدات تشرشل بإغراق الدلتا لو نجح روميل في دخول مصر. وبدلا من الانتباه لمصالح مصر ولموقعها بين دول العالم وما يتهددها من اخطار كان الزعماء لا يرون أبعد من كراسيهم وأنوفهم. اكتفوا بالتسابق على ارضاء السفير البريطاني وتنفيذ تعليماته مهما كانت. خزانة مصر قدمت قرضا لحكومة بريطانيا لتمويل الحرب ومع ذلك كان الشعب يعاني فقرا مدقعا. وبعد حادث 4 فبراير تحول النحاس باشا من زعيم ينادي بسيادة الدستور وحكم الديمقراطية الى حاكم عسكري ديكتاتوري يهتم اولا وأخيرا بالامتيازات التي يخولها له منصب رئيس الوزراء في صراعه مع السراي.
الخصوصية التي يتمتع بها اي شعب هي محصلة كل ما فات من تاريخ. فما الذي حدث في مصر وما الذي حدث في بريطانيا؟ بنت بريطانيا مؤسسات الدولة البرلمانية التي تفرد للمواطن حق الاحتجاج والترشح والانتخاب في اطار القانون. واصبحت تلك المساحة من الحرية حقا مكتسبا لا يمكن التفريط فيه. والدليل على ذلك ان المجتمع على اختلاف طبقاته يعتمد الاضراب السلمي كنوع من المقاومة الصامتة التي تدخل ضمن اطار شرعية الاحتجاج. مليون متظاهر خرجوا تحت حماية البوليس للاحتجاج على قرار الحكومة بغزو العراق. وقبل عدة ايام تظاهر جمع غفير امام احد فروع محلات ماركس اند سبنسر في مدينة ساحلية صغيرة، احتجاجا على ما تفعله سلطات الاحتلال الإسرائيلي في غزة. وقد حمل لي البريد منذ ايام فيلما وثائقيا اعدته شابة بريطانية ذهبت على نفقتها الخاصة الى العراق، لتسجيل معاناة الشعب العراقي منذ ان فرضت عليه العقوبات الاقتصادية في زمن نظام صدام الى الغزو وما بعده وتحول الدولة الى ارض خراب، يتردد فيها صراخ الجرحى والثكالى والجياع. ورغم ان التلفزيون الرسمي رفض عرض الفيلم حققت صانعة الفيلم انتماءها بالاعتراض على سياسة حكومتها المنتخبة.
في مصر ذاب الخيط الرفيع الذي يفصل بين شعور الفرد بالانتماء من عدمه تدريجيا. انه ليس عنصرا ماديا يمكن تحديده وانما هو حالة تتأصل في العقل والروح. بلا انتماء لا يمكن ان تقوم لشعب قائمة ولا يمكن ان تستقيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. المبدأ بسيط ولا تعقيد فيه: راعني واكفل حريتي وحقوقي واصدقني القول أعطك ولائي وصدقي حتى لو اختلفت معك في الرأي.