ما بين غزة ونيويورك!

TT

قالت امرأة فلسطينية أمضت ساعات في اجتياز مسافة جغرافية كان يمكن أن تجتازها خلال دقائق لولا حواجز الاحتلال المرتفعة في وجه كل فلسطيني يريد التواصل مع شعبه ومقدساته: «نفسي أصلي في الحرم. ما زلتُ أسعى منذ ساعات أن أصل وأنا صائمة وعطشانة، والحمد لله» بعد أن حاولت إعادة الغصة والدموع إلى قلبها بدلاً من أن تظهر أمام الكاميرا، وهي تقف مع آلاف الفلسطينيين الذين يُمنَعون يومياً، وخاصة يوم الجمعة، من الصلاة في المسجد الأقصى.

بينما قالت والدة محمود الكفافي الذي دهسته الدبابة الإسرائيلية عشية وصول رايس إلى الشرق الأوسط: «لقد خرج منذ لحظات.. بعلمك كان ولدي قربي.. بعلمك ذهب برصاص إسرائيلي، ما أرخص حياة الفلسطيني.. من يحميه، ومن يضمن عودته إذا خرج». ومن غزة، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر في 26 سبتمبر (أيلول) 2007 مقالاً مؤلماً عن قتل أطفال فلسطين بعنوان: «ساحة اللعب لأطفال غزة قد تكون قاتلة» ووصف الكاتب حزن آباء وأمهات الأطفال الثلاثة من بني غزالة الذين قتلهم جنود إسرائيل، بدمٍ بارد كعادتهم، وهم يحيى أبو غزالة، 12 عاماً، ومحمود أبو غزالة، 9 أعوام، وسارة أبو غزالة، 9 أعوام، وعدم قدرتهم على استيعاب نفسية من يقتل أطفالاً أبرياء ويتسبب في كارثة إنسانية لهم ولأهليهم. كل هذه الوقائع وغيرها كثير، من ارتفاع أعداد الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية منذ يوليو (تموز) إلى 572 حاجزاً، وإلى ارتفاع عدد الأطفال الشهداء في فلسطين إلى 870 طفلاً، تبدو وكأن لا علاقة لها بما يجري من تحضيرات لمؤتمر الخريف في واشنطن بحيثُ لا يتم حتى ذكر الاحتلال الإسرائيلي بل إن الأخبار كلها تتحدث عن اجتماع ومدعوين، وتشكك في رغبة العرب بالسلام، وتتحدث عن أسس دولية للسلام وكأن الأسس الدولية تتماشى مع قتل الأطفال، واحتلال الأرض، وتصعيد الاستيطان، وإذلال الناس، وتحويل حياتهم إلى جحيم في ظل احتلال عنصري دموي يرتكب أبشع الجرائم بحق السكان الأصليين ويتفضل عليهم بالاجتماع معهم لمناقشة خططه الدموية المستقبلية لهم. فها هو أولمرت، وهو الذي اخترع فكرة هذا المؤتمر، من أجل تسويق حكومته، والتطبيع مع العرب دون أن يتخلى عن ذرة تراب عربية أو يعيد أياً من الحقوق لأصحابها الشرعيين يضع أسس هذا اللقاء فيقول: «إن المؤتمر الذي دعت إلى عقده واشنطن ليس مؤتمر سلام وإنما لقاء دولي بمشاركة دول عربية معتدلة يراد منه توفير غطاء دولي لعملية سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، ومن أجل تعزيز القوى العربية المعتدلة التي تؤيد التسوية مع إسرائيل، وتقبل بأسس المجتمع الدولي، وخريطة الطريق..». وأعادت وزيرة خارجيته الحديث عن هذه «الأسس الدولية» حين أعلنت في افتتاح كلمتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة: «أن شعب إسرائيل يتذكـر اليوم وكل عام كيف مضى من العبودية إلى الحرية منذ ثلاثة آلاف عام»، مؤكدة بذلك أن حكام إسرائيل يريدون إعادة العالم ثلاثة آلاف عام إلى الوراء حين حرموا شعب فلسطين من الحرية، وفرضوا العبودية، وسفك الدماء، والحروب على أرض المقدسات، ولنتخيل جميعاً ماذا يحدث في العالم لو أن حكام كل بلد أرادوا إعادة الأمور إلى الوراء لما يعتقد أنها كانت عليه منذ ثلاثة آلاف عام. وتابعت وزيرة الكيان الإسرائيلي الحديث عن أن الصراع في الشرق الأوسط «هو صراع قيم وليس صراعاً على الأرض». وللأسف لم تتضمن كلمة فلسطين في الأمم المتحدة قراءة لنهم حكام إسرائيل على قضم الأراضي الفلسطينية، ولا لأعداد الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل بدمٍ بارد، ولا للمجازر الوحشية منذ تأسيسها، ولا حتى أولئك الذين قتلتهم منذ عام 2000 والذين فاقوا خمسة آلاف شهيد بينهم 900 طفل. كما خلفت الاعتداءات الإسرائيلية أكثر من 70 ألف جريح فلسطيني؛ معظمهم يعاني من إعاقة دائمة، أضف إلى ذلك أحد عشر ألف سجين في سجون الاحتلال الإسرائيلي؛ بينهم مئات النساء والأطفال الذين لم يرتكبوا ذنباً سوى أنهم يقاومون احتلالاً عنصرياً بغيضاً، ويطمحون للعيش بحرية وكرامة على ارض الآباء والأجداد. بالطبع لا أمل من أن ينتفض العالم «الديمقراطي المتحضر» ليوقف هذه الجرائم، فهو مغيب تماماً بفضل «الإعلام الحر» المنشغل عن العرب بمينامار!

تبدو نيويورك بعيدة جداً عن هذا الواقع الدموي المؤلم للفلسطيني الذي يعاني من الحصار والتدمير والإذلال والقتل والتهجير. ومَنْ يتجرأ على المقاومة يتهم بـ«الإرهاب»، ومَنْ يخاطر بممارسة حرية الرأي فينتقد المجرمين فإن رئيس الولايات المتحدة نفسه له بالمرصاد! فالرئيس بوش لم يتوان عن تعنيف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لأن هذا المجلس انتقد، ليس إلا، جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين. وكم من مبعوث دولي اضطر إلى الاستقالة دافعاً بذلك ثمناً لمواقفه النزيهة حيال معاناة الشعب الفلسطيني: من وزيرة خارجية السويد آن ليند، إلى ماري روبنسون، وجيمس ولفنسون، والفارو دي سوتو وآخرهم وليس أقلهم جون دوغارد، مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، حيثُ اعترض على الهوة الشاسعة بين عمل وكالات الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية التي تؤدي عملاً رائعاً وبين موقف الأمين العام والطاقم الذي يعمل معه والذين ينحازون كلياً لإسرائيل. وأضاف: «من المهم أن نفرق بين وكالات الأمم المتحدة على الأرض والأمم المتحدة في نيويورك». في الحقيقة ورغم دعوات رايس: «أن على مؤتمر الخريف أن يكون واقعياً»، فإن الحوار الدائر في أروقة الأمم المتحدة حول الشرق الأوسط، وخاصة فلسطين والعراق، يبدو وكأنه على كوكب آخر لا علاقة له بالأرض التي يتم تهجير وتعذيب وقتل الناس الأبرياء فيها، فلسطين والعراق، حيثُ يتم بناء الجدران العنصرية ضدهم. وكشف دوغارد أن «الأمم المتحدة واللجنة الرباعية الدولية تتجاهلان تقاريره وتوصياته بشأن انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية بسبب انحيازهما لإسرائيل». وللتذكير فقط، فإن الأمم المتحدة واللجنة الرباعية هما اللتان يُشار إليهما بـ«الأسرة الدولية»، التي تدعو العرب للاجتماع مع إسرائيل لبحث «آفاق السلام» والتي تبدو واضحة للعيان بأنها آفاق تطبيع مع نظام تتعمق عنصريته كل يوم، وهي آفاق اعتراف بالاحتلال وسطوته العسكرية وبجرائم الاحتلال دون إعادة أي من الحقوق للعرب. وكان سلف دوغارد، ألفارو دي سوتو، قد نشر تقريراً في غاية الأهمية عن جرائم إسرائيل اليومية بحق الشعب الفلسطيني إلا أن الإعلام العالمي والعربي أيضاً، تجاهل هذا التقرير وسارا في ركب ما تقرره «الأسرة الدولية» المنحازة لإسرائيل والتي استخدمت الفيتو عشرات المرات لمنع حماية الشعب الفلسطيني من القمع والإجراءات الإسرائيلية المروعة في الأراضي العربية المحتلة. فقد عبر دي سوتو، بطريقة مشابهة لدوغارد، عن ألاَّ أمل يُرجى من الرباعية المؤلفة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة «لأنهم جميعاً أصدقاء إسرائيل». وأضاف أن «صناع السياسة الأميركية يصابون بالهلع من أية إشارة يمكن أن تزعج إسرائيل ويتملقون دون خجل الناخبين المؤيدين لإسرائيل» («الجزيرة» 13 يونيو (حزيران) 2007). أما دوغارد فقد قارن بين إجراءات الفصل العنصري السابقة في بلده جنوب أفريقيا وما عاشه وشاهده هناك وبين واقع الحال للممارسات الإسرائيلية اليوم ضد الشعب الفلسطيني. وقال دوغارد إن إغلاق إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة هو «نوع من العقاب الجماعي» الذي مارسه نظام الأبارتايد وأشار إلى ارتكاب إسرائيل «انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان» في الضفة الغربية، وأن الجدار الذي بنته إسرائيل يهدف إلى «زيادة معاناة الشعب الفلسطيني». وأضاف: «أن الأسرة الدولية حددت ثلاثة أنظمة تتعارض مع حقوق الإنسان، هي الاستعمار والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي، وإسرائيل تمارس بشكل واضح احتلالاً عسكرياً للأراضي الفلسطينية، وفي الوقت ذاته، فإن بعض مظاهر هذا الاحتلال تأخذ شكل الاستعمار والفصل العنصري المخالفين للقانون الدولي». إذا كان العرب المدعوون إلى مؤتمر الخريف، الذي يراد له أن يكون خريفاً لهم ولحقوقهم في فلسطين، غير قادرين، وهم بحضرة الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهم من صناع إسرائيل وعشاقها، على تسمية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين احتلالاً، وغير قادرين أمام صلف القوة الدولية على الإصرار على عودة الحقوق لأصحابها الشرعيين.. فلماذا يتجاهلون معاناة غزة والضفة ويسيرون وراء سراب الإنجاز في نيويورك؟ أو ليس مؤلماً أن يغامر الدبلوماسي من بيرو ألفارو دي سوتو، والدبلوماسي من جنوب أفريقيا، جون دوغارد، بمستقبلهما السياسي لينقلا معاناة شعب فلسطين إلى ضمير الإنسانية بينما يهمل الإعلام العربي أصواتهما وتظهر أخبارهما ـ إن ظهرت ـ في الصفحات الأخيرة منه؟ أو ليس مؤلماً ألا يستحضر بعض العرب معاناة شعبهم إلى ضمير البشرية في نيويورك، وأن ينشغلوا بالتحدث عن سلام ما زال سراباً منذ عشرات السنين تحل محله مستوطنات، وجدران عنصرية، ودماء أطفال مؤمنة ببلدها تستشهد لأنها ألقت حجراً للتعبير عن توقها للحرية وإحساسها بالكرامة؟

أو ليس مؤسفاً ألا يجد دي سوتو، ودوغارد مرجعية عربية تلتقط تقاريرهما، وتستشهد بها، وتبني عليها، وتدحرج كرة الثلج في كل أنحاء العالم كما فعل شعب جنوب أفريقيا أخيراً؟ إن (الواقعية) التي تدعو إليها رايس يجب أن تنطلق من واقع الأراضي العربية المحتلة في فلسطين، والجولان، وجنوب لبنان، والعراق، وإلا فلن تستطيع نيويورك أن تخرج إلى النور سوى مسرحية مملة أخرى من مسرحيات التقاط الصور تُضاف إلى إنجازات كل الرحلات واللغة المبهجة وتترك الصراع يتفاقم.

إن المسافة بين غزة ونيويورك هي المسافة بين الحقيقة والوهم، وبين العرب المدافعين عن حريتهم وكرامتهم، وبين المصابين بالهلع واليأس من إمكانية الخلاص من العبودية الغربية، ولن يلغي هذه المسافة سوى الكفاح المتواصل من أجل الحرية والكرامة، فقد أصبح الظلم الواقع على العرب في فلسطين والجولان والعراق ولبنان جديراً بأن يكون في مركز اهتمام الإنسانية لأنه هو أساس ما تتعرض له البشرية من عنف وقتل ودمار.