السودان: حرية الصحافة بين القانون وقيد المهنية

TT

يثير الحراك السياسي السوداني نحو تعزيز الحريات العامة والديمقراطية وحرية الصحافة انطباعا إيجابيا لدى المراقب، الحريص على رؤية اتجاهات المساعي الصاعدة لغايات الكمال. فكثافة الجهد ستتملكه بالدهشة والإعجاب، لكنه سرعان ما يتحول بنظره إلى استجلاء الكيفيات التي يتم بها التطبيق ويتطور بها الحوار حول ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. مع إدراك مدخلي بأن الحوار سوف ينجح إذا أراد له المتحاورون ذلك، ولأنه حوار، فلا يحتاج إلى سبب زائد عن كونه كذلك لكي ينجح، لكونه التقاء العقول والأفكار ومرافعة الحجج وتفاهم المعارف.

وقد تكافأت في ورشة حوار نظمتها مؤسسة اتجاهات المستقبل بالخرطوم، بالتعاون مع المجلس القومي للصحافة، يوم الأربعاء 26/9/2007، حول مشروع قانون الصحافة الجديد، تكافأت أطراف الحوار من حيث الاعتبار المعرفي، والوزن العلمي، والاطار التشريعي، والصفة المهنية المتوازية والمتساوقة مع ضرورات التقاء الجميع على طاولة واحدة، وتحت سقف حاجة مشابهة إلى تفاهم يؤكد مجدداً أحقية مجتمع الصحافة وشخوصه التنفيذيين والتحريريين بأهلية لازمة لإدارة صحافة تليق بتجربتنا الوطنية، وتمجد جهاد أجيال ممن وضعوا لبنات بناء معرفة وحريات شمخت مع الأيام والسنون.

وقد تركزت المناقشات على مشروع القانون المقترح، وأسس العمل الصحفي فيما يتعلق منها بأسلوب التعامل مع القانون والتشريعات، وما يرتبط منها بالخبر وطريقة نقل الوقائع والأحداث إلى جمهور المتلقين، وواجبات الصحافي في ضوء تلك الأسس والمعطيات. كما تناولت المصاعب التي يمكن أن تواجه الصحفي خلال تأدية عمله، مع وجود الإباحة الواسعة التي يكفلها هذا القانون المقترح. وتعدت الورشة القانون إلى النظر في العديد من القضايا، التي تتضمن قواعد العمل الإعلامي وضوابطه، وأسلوب العمل الذي تقتضيه كيفية التعامل مع الموضوعات الحساسة، إضافة إلى مناقشة قضية حرية التعبير والضوابط التي تحكم هذه الحرية في إطار المسؤولية الصحفية والنزاهة الإعلامية.

وليس من السهل أن ندافع عن صحة كل ما ورد في الورشة من نقاش وجدل ومساجلات ومآخذ على المشروع، لأن مشروع القانون، الذي عرض على الحضور، كان هو الآخر جهد جماعة مستفيضة استوفت فيه كل شروط البحث، وشمول الاستقصاء، وسعة الحوار، ورصانة الرأي، ومتانة الاستدراك، وحجية الشورى، التي طافت بالعمل المتصل على الخبراء وأهل الاختصاص والصحفيين من ذوي الدربة والدراية، وصاغته بنصوص دافعت عن نفسها، لأنها رفعت سقف الحريات إلى مراقي لم يبلغها غيره من قوانين الصحافة السودانية المعروفة.

لكن، ليس من العدل أن نصفه بكمال لا يقبل التعديل والتبديل، وإلا لما تجشمت مؤسسة اتجاهات المستقبل عناء دعوة العارفين لطرحه لمزيد من التداول والتبصر، الذي ينفذ إلى جوهره ومخبره، ويفضي إلى حقائق يستجد بها الحوار ويستمر نحو غايات الإجماع. ومن خلال نظرة على ما أفاض به الحضور من إسهامات، نجد أن مطلوباتهم من القانون الجديد تضمنت معانيَّ القدرة والمقدرة والاستطاعة والأهلية والقابلية والأحقية والقوة المعنوية والجرأة والإمكان والإجادة، وإذا أوجدنا رابطا بين كل هذه الكلمات سننتهي إلى حقل دلالي ومبدأ من مبادئ حقوق الإنسان وهو حق الحرية، إضافة إلى السلطة، باعتبار أن الصحافة سلطة رابعة ويجب أن يكون لها وضعها المقنن بين بقية السلطات المعتبرة، إذ ليس من العدل أن تبقى الصحافة رهينة لغيرها من السلطات، ولا أن تبقى مقيدة بأمزجة الحاكمين.

فالصحافة هي لسان حال المجتمع، وربطها ببقية مؤسسات المجتمع الفاعلة يجعل لها دلالات ثقافية واجتماعية وعلمية ومعرفية إلى جانب دلالاتها الطبيعية والذاتية. ويتأكد ذلك من الإدراك الصميم لمفهوم الاتصال، الذي تضع به الصحافة أجندة الحوار للدولة والمجتمع. الحوار الذي يقوم على المساواة وإيمان الأطراف بهذه المساواة، ويقتضي قبول الاختلاف وايلاء أهمية للآخر واقتسام المعرفة بوصفها رابطاً جماعياً وأداة تعارف وتقارب وتضامن وطني وقومي.

والأهم من ذلك، سوف يظل الحوار حول حرية الصحافة متصلا‏،‏ سواء انتهي الأمر بقبول المشروع المقترح أو تعديله،‏ فحرية الصحافة تمثل ركنا أساسيا من أركان الدستور، وأساً ضامنا لعملية التحول الديمقراطي‏، وهي بكل تأكيد أحد المؤشرات الأساسية لقياس مستوى التقدم في أي مجتمع‏،‏ وما لم تخضع أوضاع الصحافة بكل عناصرها لنقاش جاد وإرادة راغبة في التصحيح، فسوف يظل مطلب الحرية يواجه تحديات الرقابة والمنع والوقف والقيود. فالتأثير على حرية الصحافة يجب أن يكون منطقة محرمة، لا يجوز المساس باحتياجاتها المعنوية والمادية، ولا فئاتها المهنية، حيث تمثل حرية الرأي والتعبير وعدالة التنافس وتأمين المدخلات الاقتصادية مطلباً أساسياً للصحافة السودانية في صراعها للبقاء والتطوير والاستمرار.

ولابد هنا من الإشارة إلى أن قيام الصحافة بواجباتها في المجتمع يشترط ثلاثة عناصر أساسية لا يمكن الفصل بينها،‏ وهي‏ الحرية والمهنية والأخلاق‏.‏ وجميعها نالت جل النقاش ولسنا بحاجة إلى تأكيد أهميتها،‏ فالصراع الطويل، ومنذ القرن الثامن عشر من أجل أن تنال الصحافة حريتها، كان دفاعا عن حق المجتمع في الحصول علي المعلومات التي تساعد أفراده على اتخاذ القرارات وبناء وعيه بالأحداث من حوله. فقد أكد أول قانون خاص بالإعلام في العالم عام 1881، صدر بفرنسا على حرية الصحافة والتعبير باعتبارها من الحريات الأساسية، فالصحافة محصنة في جمع المعلومات ومعالجتها وإنتاجها بالمستويات المهنية والأخلاقية‏،‏ التي تفرضها حاجة المجتمع للمعلومة والمعرفة والتعبير الحر عن الرأي.

أمام هذه الحقائق والأسباب، فإن وجود صحف قوية قادرة على المنافسة بمستويات مهنية عالية الجودة‏،‏ ستتجه بتأثيراتها الايجابية على عمليات التحول الديمقراطي والاحتفاء بالتعددية في الآراء، ومن الطبيعي أن يعبر كل محتوي الصحف عن قدر من المسؤولية الاجتماعية‏.‏ يعد توفير الحماية القانونية للعاملين في حقل الصحافة والإعلام جزءاً لا يتجزأ من مفهوم الحكم الصالح في الدول النامية. ويستند مفهوم هذا الحكم، الذي يُعرف معايير محددة لقواعد التنمية والديمقراطية على مبادئ أساسية أهمها تغليب سلطة القانون على سلطة الأمن. لأن حرية الصحافة هي مدخل للإصلاح، ووسيط يلعب دوراً مهماً بين المجتمع ومؤسساته، وتشارك بصورة مباشرة في عملية اتخاذ القرار السياسي في ظل غياب بديل عقلاني للنخبة السودانية في المرحلة الراهنة.

ومع كل التفاؤل الذي أعلته جدية النقاش في الورشة، والثقة بالمرجعيات الثقافية والفكرية القائمة على الحوار، التي تأسست عليها مؤسسة اتجاهات المستقبل، إلا أن الجميع يعرفون كم هي المعادلة صعبة، ويعرفون جيداً أن توسيع سقف الحريات يحتاج إلى كثير من الشجاعة، وقدر أكبر من الحكمة تعزيزاً لدور المؤسسات الإعلامية والإعلاميين في تغيير الأداء الحكومي والمجتمعي. وقد بدلت المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية وجه العالم من عدة أبواب، وساهمت الصحافة بشكل رئيسي في ذلك سواء عن طريق الصحفيين المهتمين بالتغيرات المختلفة على مضامين الحياة، أو عن طريق الصحافة، التي تزايد دورها في واقعنا المعاصر حتى غدت شريكا رئيسيا في ترتيب أوليات الاهتمامات مؤثرة على عملية إصدارنا لكل الأحكام.

وإذا كانت الورشة قد غطت الجانب الخاص بالقانون، ومدى تأثيره على مستقبل الصحافة بوجه عام، فإنه يجدر بنا الإشارة إلى أن حرية الصحافة تحتاج في الوقت الراهن إلى أكثر من مجرد قانون ينص على حريتها، بل يجب أن يطرق الجميع كل الأبواب التي تمهد السبيل لمعرفة مفاهيم هذه الحرية وممارستها ومضامينها ومسؤولياتها، وإذا كان القانون الجديد قد أدرك المتغيرات المختلفة، فإن الصحافة مطالبة بإعطاء معنى أوسع لهذه الحرية في الحياة العامة، ورسم صورة إيجابية للالتزام بالمبادئ الأخلاقية لمهنة الصحافة، التي تتقيد بضرورات تغليب سلطة القانون.

* كاتب وأكاديمي سوداني