احذروا الغزلان.. وليس الإرهابيين!

TT

هذا هو عنوان مقال غيديون راشمان المنشور في جريدة الفايننشال تايمز البريطانية بتاريخ 9 تشرين الأول 2007 عن «الحرب على الإرهاب» من وجهة نظر غربية. وقد قرّرت أن أستميح الكاتب عذراً وأستخدم عنوان مقاله نفسه لأكتب للقارئ العربي الوجه الثاني من هذا المقال حول المعنى الحقيقي والأثر المستقبلي «للحرب على الإرهاب» على الإنسان العربي المسلم. بدأ راشمان مقاله بملاحظة الكاتب الأكاديمي الأمريكي جون موللر بأن عدد الأمريكيين الذين قتلوا على يد الإرهابيين منذ عام 1960 هو حوالي العدد نفسه من الأمريكيين الذين قتلوا بحوادث الطرق التي سببها مرور غزال شارد على الطرق في الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها. وعلقّ راشمان بالقول:«طبعاً يجب أن نكون حريصين بألا نعمم هذا الأمر على الغزلان، فمعظمهم مسالم، ومن الحماقة أن نتعامى عن الخطر الذي تسببه الغزلان، ولكن من الحماقة أيضاً أن نتعامل مع جميع الغزلان من مبدأ الريبة والشك والانتقام». وأضاف راشمان «طبعاً أنا أقبل أن هناك خطرا إرهابيا في لندن حيث أعيش، وقد قتل في صيف 2005 اثنان وخمسون بريطانياً في مترو لندن، ولكن هذا ليس الخطر الوحيد الموجود في الحياة. فقد قتل في العام الماضي 3201 بريطاني على الطرق البريطانية بمن فيهم 148 من راكبي الدراجات، مع أن مبيعات الدراجات ارتفعت بعد وقوع ذاك الحادث الإرهابي في مترو لندن. ويضيف راشمان إلى ما كتبه برايان جينكيز من مؤسسة راند عن احتمالات تعرّض المواطن الأمريكي للموت فكانت حصّة حوادث السير هي 1/ 9000 وحوادث العنف هي 1/18000 واحتمال أن يموت من حادث إرهابي خلال الخمس سنوات الماضية بما فيها أحداث 11 أيلول هي 1/500.000. ومع ذلك فإن تهديد «الإرهاب» الذي كان السبب وراء «الحرب على الإرهاب» التي طالت لحدّ الآن بكوارثها وجرائمها ضدّ الإنسانيّة كلاً من شعوب فلسطين والعراق، والآن يقوم الثنائي بوش وساركوزي بضرب طبول الحرب الدموية مرّة أخرى، غير تلك التي شنّتها إدارة بوش، وما زالت، «بواسطة حلفائها» على الصومال والسودان ولبنان.

باسم هذه الحرب يتمّ اليوم تنفيذ خطط شريرة لحرمان الشعب الفلسطيني من حقّه في الحريّة، وإطالة الأزمة في لبنان، وتهديد سورية، والعمل على تقسيم السودان. وباسم هذه الحرب أيضاً تبنى جدران فصل عنصرية في فلسطين، وطائفيّة وعرقيّة في العراق، والأخطر والأهم من كلّ ذلك أنه باسم هذه الحرب يتمّ وأمام أعيننا، وبالتعاون من قبل بعض أبناء المنطقة، تغيير هوية ووجه وتاريخ بلداننا كما سلمّها لنا الآباء والأجداد. هناك تهديدات كثيرة لحياة الأمريكي أخطر من الإرهاب، فلماذا هذه الحرب الدمويّة على الشعوب العربيّة؟

لقد أصبح واضحاً أن «الحرب على الإرهاب»، التي أصبحت «الحرب على العرب» بعد أن امتدّت من فلسطين العراق إلى لبنان والصومال والسودان، وبعد أن أصبحت سورية تحت التهديد بالعدوان، إنما هي خطّة ذات أهداف إسرائيلية بامتياز وتموّلها وتنفّذها إدارة بوش.

ولكن ما يعنينا نحن كعرب هو أن هذه «الحرب على العرب» ترافقت مع لهاث بعض العرب وراء وهم الشعارات الأمريكية عن «الحريّة» المكبّلة بالاحتلال الدموي، و«الديمقراطية» التي تحمل عار التبعيّة للأجنبي، كما عمد بعض العرب إلى التستّر عما يجب إصلاحه فوراً بذريعة الأخطار المحدقة بالعرب وعدم ملاءمة الوقت لمعالجة نقاط الضعف المستفحلة في مجتمعاتنا.

إن أول نتيجة من نتائج هذه الحرب هي أن العرب بدأوا يعيشون بسجون كبيرة مقارنة بما يعيشه الآخرون. وليس عليك إلا أن تكون في أوروبا لتعلم أن زميلك الألماني لديه موعد بعد ساعات في فرنسا، وغداً في بروكسل، ومن هناك سوف يستقلّ القطار ليكون خلال ساعتين ونصف الساعة في قلب لندن. أما نحن فنعيش في حلم الوصول إلى القدس أو حتى إلى بغداد، والعمل جارٍ على جعل دمشق أبعد من القمر عن بيروت، وجعل رام الله أبعد من الفضاء الكوني عن غزّة، وأصبحت عمليّة تجزئة وتقسيم وتفتيت العرب خبراً يوميّاً، فالحكام متباعدون متخاصمون، والحدود ترتفع سواترها، واللقاءات مع العدوّ أصبحت طبيعية ومع الشقيق عصيّة. والأخطر من هذا هو أنه ضمن هذه الدول التي أصبحت معزولة بجدران من إسمنت وحواجز الرهبة من الشقيق، أصبح هناك من يدافع عن الجدران ويقبض ثمن الحواجز، فيروّج اليوم لتقسيم الأحياء وليس البلدان وحدها، حسب العرق والمذهب والطائفة، وهنا تكمن الطامة الكبرى، الطامة هي عندما يحتلّ الأمريكي والإسرائيلي بلداننا، ولكن الطامة الكبرى هي عندما يحتلون عقولنا وقرارنا.

كانت وما زالت نقطة الضعف التي يتسلل منها العدوّ في البناء العربي الحديث هي انتهاك الحريّة الفرديّة، ولهذا السبب فإن الأمة ضعيفة أمام أعدائها، بهذه الذريعة يتحالف البعض مع العدوّ ضد الشقيق، وبسبب ذلك يدعم الأعداء الأنظمة الديكتاتورية، أو يتدخلون لصالح هذا الحزب، أو تلك الفئة، أو تلك الحكومة ضد «الآخرين»، وفقاً لمصالحهم الاستعمارية، الاقتصادية منها أو السياسية أو حتى العقائدية، ولهذا السبب أيضاً أصيب الرأي العام الشعبي العربي بالإحباط وبدأ ينقسم إلى طوائف، ومذاهب، وعقائد متناحرة حتى المجازر، تتبادل في ما بينها عار الصمت عن تنكيل الطغاة، من المحتلين والمحليين، «بالآخر» الذي هو المواطن الشقيق، أو البلد الشقيق، والشريك بالحقوق والواجبات والقدر والمصير أيضاً.

ولمعالجة هذا الضعف يتوجب التوقف عند دوافع بوش والمحافظين الجدد والتي تدوس وفق مصالحها الحريات الفردية والقوانين وكرامة الحياة في فلسطين والعراق ولبنان والصومال والسودان، وتغرق حياة العرب بالسجون والتعذيب والعبودية وذلك بقوة السلاح، وسطوة المال، وبتطرف الفكر تماماً كما كانت الفاشية والنازية والأبارتيد والعنصرية ضد لون البشر أو عرقهم واليوم ضدّ دينهم وقوميّتهم العربيّة. وإذا كانت «الحرب على العرب» تستهدف بلداننا وتعايشنا وأطفالنا وأرضنا ومستقبلنا، فعلينا نحن العرب أن نتوقف لنميّز بين أمرين: فشل البلدان العربية عموماً في بناء مؤسسات سياسية فاعلة، بعد التحرر من الاستعمار، مع أنّ تراثنا يثبت وجود أنموذج التعايش المشترك الذي أنتج حضارة وعلماً أضاء للعالم طريقه. في وجه الحملة الدولية لتشويه صورة العربي المسلم في أعين العالم بهدف تبرير قتله وتعذيبه وفرض عبوديّة الاحتلال الأجنبي عليه، علينا أن نتذكر أن النموذج العربي كان دوماً هو الأفضل «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ولذلك، وبعد خمسة عشر قرناً، لدينا هذا القوس قزح الجميل من الأديان، والطوائف، والأعراف، والمذاهب، واللهجات، والملامح القطرية، والعادات القبلية، في حين ترى مقابلها الأنموذج الغربي: الدولة التي تتطابق مع الأمة والدين والمذهب واللغة واللهجة السائدة لديهم. فكل من ألمانيا وفرنسا وايطاليا وانكلترا واستراليا والولايات المتحدة تتوحّد فيها الدولة مع الأمّة والدين والطائفة بشكل خلقت فيها ثقافة الأكثرية الحاكمة عبر «أحزابها السياسية» التي تسحق الأقلية، المختلفة دينيّاً أو عرقيّاً أو عقائديّاً، عبر عمليات الدمج، والإلغاء القسري للتمايز، ولذلك تراهم لا يتقبلون الإسلام، ويشعرون بالريبة من الحجاب، ولذلك يقاربون قيم أمتنا العربية بنظرة دونية.

إن أخطر ما يمكن أن يفعله العرب في هذه المرحلة هو التراجع عن قيم العيش المشترك، وقيم تقبل التنوع، انجراراً وراء الفكر الغربي المستورد عن «حقّ الأكثريّة بحكم الأقليّة»، فهذا يخدم المخططات التي تستهدفنا، إن الهجمة التي يشنّها التحالف الإسرائيلي ـ الأمريكي على عنصر العروبة الحضاري في هذه الأمة ومحاولتها تفتيت المفتّت، وتقسيم المقسّم، هي الوجه الحديث لاستبداد طغاة عرفهم تاريخنا، أرادوا لكيان الأمة أن يردى قتيلاً مقطّع الأشلاء، وقد حان الوقت للالتزام بالقيم الإلهية والوطنية المتمثلة بقدسية الوطن، وقدسية حياة الإنسان، وقدسيّة حريته، وواجب صيانة الحقوق الشرعية للدولة والمجتمع والفرد على حدٍّ سواء، دون «استقواء الأكثرية»، ولا إلغاء «الأقلية»، بل تحقيق مواطنية واحدة توحّد الجميع في الحقوق والواجبات. وليعي العرب أن هويتهم العربية المشتركة يجب أن تكون مركز عملهم، وإنجازهم، ودافع نجاحاتهم، وتفوقهم، وأن الخلاف بينهم مهما اشتدّ يجب ألا يكون دافعاً للتحالف مع العدوّ ضدّ الذات، لأن تحالف العربي مع القوى المعادية التي تشن هذه «الحرب على العرب» هو بالنتيجة تحالف مع الشيطان الذي ينشر الرعب والموت والعبوديّة ضدّ أرض العربي وحريّته وتاريخه ومستقبل أبنائه.

www.bouthainashaaban.com