دمشق متشائمة إزاء استقرار لبنان.. فلماذا يا ترى؟

TT

يقول المثل الشعبي «هناك أشياء تحتاج إلى شهود... وأشياء أخرى شهودها منها وفيها!».

وخلال الأيام الفائتة كانت ثمة دلالات على شهود من «النوع الثاني».

ففي تصريح صحافي غير مسبوق في صراحته إزاء الوضع اللبناني «بشّر» الرئيس السوري بشار الأسد اللبنانيين والعرب والعالم باستبعاده أي استقرار في لبنان خلال المرحلة المقبلة. وحمّل الرئيس الأسد المسؤولية في ذلك لقطاع من اللبنانيين اتهمه بأنه لا يفكّر في مصلحة لبنان بل يصرّ على ربط نفسه بـ«المخططات الخارجية.. ومصير لبنان بمصير الصراعات الاقليمية». كما هاجم بشدة التيار المسيطر على مقاليد الأمور ـ أو بمعظمه ـ معتبراً أنه «أقرب الى اسرائيل او يرتهن للخارج». وخلص إلى القول أن دمشق لا يمكنها إذ ذاك بناء «مستقبل العلاقة السورية ـ اللبنانية على أساس العلاقة مع قوى لا تؤمن بلبنان..!».

وفي القصر الجمهوري، ولدى التقاء وفد من الكتلة البرلمانية لـ«حزب الله» رئيس الجمهورية إميل لحود، «بشّر» النائب الحاج محمد رعد، صوت الدبلوماسية الراعدة للحزب، اللبنانيين بأن كل الأمور ترتّبت وأن الإجراءات المعدّة اكتملت رداً على أي انتخاب رئاسي تمضي إليه الأكثرية البرلمانية بنصاب «النصف زائد واحد». وقال إن «المعارضة تشاورت مع لحود في توقيت الإجراءات التي يمكن أن تُعتمد في كل الاحتمالات»، وموضحاً أن الحزب «يرصد كل التطورات ويحدد البدائل لكل الاحتمالات...!!»، متحدثاً عن «التوقيت... لأن الإجراءات قد حُسمت وتمّ تحديدها...!!». وكرّر رعد ونائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم المعنى ذاته في مناسبات أخرى.

وفي مقر البطريركية المارونية يوم الجمعة الماضي «بشّر» الوزير السابق سليمان فرنجية اللبنانيين أيضاً بأن لا مجال لإنهاء المعارضة اعتصامها في وسط بيروت قبل «التوافق» معها... أي الرضوخ لشروطها. في حين واصل حليفه النائب ميشال عون، مشكوراً، أمام البطريرك الماروني إبداء قلقه على مصير المسيحيين «بعد ست سنوات من اليوم» إذا ما دخل الشيعة (حلفاؤه الحاليون) والسنّة في اتفاق ثنائي يستثني المسيحيين. واعتبر أن انتخاب رئيس بنصاب «النصف زائد واحد».. «مشروع حرب على المسيحيين» ولا مجال لدرء هذه الحرب إلا برئيس مسيحي قوي (لعله هو؟) وقانون انتخاب عادل.

ثمة مشهد يتكامل إذاً على جبهة المعارضة اللبنانية وسندها الاستراتيجي الإقليمي الذي هو دمشق وطهران.

فهذه الجبهة، انطلاقاً من رفضها الاعتراف بأن الأكثرية البرلمانية أكثرية شعبية حقيقية، تلجأ إلى التصعيد في الشارع والتهديد من عواصم الحليفين الإقليميين. وهي بما أنها لا تؤمن أصلاً بالديمقراطية ولا تمارسها.. ترى نفسها في حلٍّ من مستلزمات العمل السياسي والتي تؤدي كل المعارضات في الدول الديمقراطية ممارساتها ضمن أطره ومبادئه.

وهي تقدماً من حالة «تحليلها» لنفسها ما «تحرّمه» على خصومها تخطط لانقلاب فعلي على السلطة بالقوة. وما اعتبارها أن الآخرين يعدّون العدّة لشن حرب عليها إلا المسوّغ البديهي الذي يسقط كل المحظورات ويبرّر خططها الانقلابية ونشاطها التسليحي والتدريبي المتسارع الإيقاع بتمويل وإشراف سخيين.

غير أن المفارقة في ما يحصل هو التناقض الغريب بين القول والفعل..

فالرئيس الأسد، يتكلّم وكأنه أحرص على سيادة لبنان من أبنائه من الموالاة الذين «لا يؤمنون بلبنان» (!) مع أنه ما زال يمانع في ترسيم الحدود وتبادل السفراء معه، وإعادة مزارع شبعا إليه، وإنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة مرتكبي جرائم القتل السياسي وقيام دولة المؤسسات فيه. بل أنه من ناحية يتهم الحكومة وقوى الموالاة بالارتباط بـ«الصراعات الإقليمية».. في حين يتهمها أتباعه اللبنانيون بالعمل على فصل لبنان عن نضاله العربي. وقد لوّح أحد صغار الأتباع ـ الذي ضبط بتهريب أسلحة على الحدود أخيراً ـ في محاضرة ألقاها قبل أيام بمدينة حمص (طبعاً تلبيةً لدعوة رسمية من حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم) بـ«انقلاب مضاد» (عروبي) ضد ما وصفه بـ«الانقلاب الأميركي».. وهذا، على ما يبدو، جزء من معزوفة «امتناع دمشق عن التدخل في الشأن الداخلي اللبناني»،.. التي تشنّف عادة أسماع كل الموفدين الأجانب إلى العاصمة السورية.

في هذه الأثناء، يتهم «حزب الله»، رافعة المعارضة وقوّتها العسكرية والمالية الأساسية، الحكومة والموالاة بالتآمر لـ«تقسيم» لبنان عبر الترويج للفيدرالية، مع أن لا أحد من قيادات الموالاة دعا حتى هذه اللحظة إلى الفيدرالية، اللهم إلا إذا اعتُبرت اللا مركزية الإدارية الموسعة مع مجلس للشيوخ مرادفاً لها، بل لقد أضحت كلمة «فيدرالية» تهمة خيانية تستحق الرجم وهدر الدم في الأدبيات السياسية لـ«حزب الله».. الساعي إلى الهيمنة الطائفية المطلقة عبر الاستفتاءات الشعبية واحتكار السلاح والتوسع في شراء الأراضي.

ولكن أليس غريباً، أن «الفيدرالية» التي يكرهها «حزب الله» وأدواته وأتباعه من مختلف الطوائف ـ بما فيها الطوائف المسيحية ـ يؤيّدها بقوة في العراق السيد عمّار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي (الشيعي)، الذي حثّ في نهاية الأسبوع المنصرم إلى التعجيل بتشكيل الاقاليم في اطار نظام فيدرالي لأنه في «مصلحة الشعب العراقي» وأحد «المداخل» للحفاظ على وحدة العراق!؟

أليس غريباً إيمان القوى الشيعية العراقية الأساسية بأن وحدة العراق لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الفيدرالية مع أنها وفق الصيغ المتداولة تهدّد بالتقسيم الفعلي.. في حين يصبح خائناً في نظر القوى الشيعية اللبنانية مَن يدعو إلى أي صيغة تعايش حضارية لا مركزية سبق أن توافق عليها اللبنانيون في الطائف، وتشكل ضمانة لإبعاد شبح هيمنة اللون الطائفي الواحد؟

إنه حقاً زمن العجائب!