ديمقراطيات غير ليبرالية

TT

تعهد الرئيس الصيني جو خونتانو في خطابه أمام المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الذي التام يوم 15 أكتوبر الجاري بإصلاحات ديمقراطية واسعة خلال السنوات الخمس القادمة في إطار الحزب الواحد.

وباستثناء بعض الأصوات المنشقة الخافتة التي احتفى بها الإعلام الغربي؛ بدا لمراقبي الشأن الداخلي الصيني أن غالبية الصينيين تأقلمت مع النموذج ما بعد الماوي، الذي تشكل تدريجيا منذ الإصلاحات الراديكالية التي بدأها الرئيس الأسبق دنغ كسياوبنغ.

قليلون هم الذين لا يزالون يتوقعون مشهد انهيار التجربة الصينية على غرار السيناريو السوفياتي.

في روسيا ذاتها التي تعيش السنة الأخيرة من عهد الرئيس بوتين، في أفق الانتخابات التشريعية عام 2008 بدا من الواضح أن المرحلة الانتقالية المضطربة الطويلة التي تلت تفكك الإمبراطورية السوفياتية السابقة قد انتهت، وان البلاد اختطت نموذجها السياسي الخاص بها، الذي يختلف في مناح عديدة جوهرية عن المسلك الديمقراطي الليبرالي الذي أرادت الولايات المتحدة تصديره لخصمها اللدود السابق.

وفي أمريكا اللاتينية قامت تجربة أخرى، بلون ثوري يساري مشاكس، عن طريق صناديق الاقتراع وآليات التناوب الديمقراطي، بدأت تتخذ سمات النضج، وتطرح أسئلة هامة على طبيعة العلاقة بين النموذج الديمقراطي في ثوابته الكلية وحقول انطباقه الخصوصية.

تختلف النماذج الثلاثة، وان التقت في نقطة جوهرية، هي انبثاق تشكلات جديدة للنظام السياسي تخرج عن الإطار الضيق للحوار الآيديولوجي حول ثنائية الأحادية الاستبدادية والديمقراطية التعددية.

ولنبدأ بالصين التي يحكمها حزب واحد ينتهج خط المركزية السياسية، فمن نافلة القول إن هذا النموذج يختلف نوعيا عن التجربة الماوية، على الرغم من الاحتفاظ بتسمية الحزب.  

فالاشتراكية العلمية التي يطرحها اليوم الرئيس جو خونتانو ليست امتدادا للعقيدة الماركسية التي تبناها ماو تسي تسونغ وأراد غرسها في الأرضية الثقافية الصينية. فالثورة التنموية التي أطلقها دنغ سياو بنغ بالتركيز على تطوير القطاعات الحديثة الأكثر حيوية ـ الزراعة والصناعة والبحث العلمي والدفاع ـ أفضت إلى تأهيل الصين إلى مركز الاقتصاد الرأسمالي المعولم. وقد نتجت عن هذه الطفرة الاقتصادية القائمة على الاستثمار الخارجي والتصدير الكثيف تحولات هائلة في النسيج الاجتماعي الصيني ببروز طبقة متوسطة واسعة، والقضاء على الفقر في الأرياف، على الرغم من بعض الاختلالات البيئوية والاجتماعية الفادحة التي تعاني منها البلاد حاليا. ومع ذلك، فإن الصين لم تشهد انفتاحا سياسيا بالوتيرة ذاتها، بل ان الحزب الشيوعي ظل مهيمنا، مسيطرا على الشأن العام.

ويفسر الباحث الفرنسي فرانسوا جليان المختص في الثقافة الصينية استمرار هيمنة الحزب الواحد بعوامل عميقة تعود إلى بنية الفكر الصيني المؤسس على مقولة النظام مقبل الفكر الغربي المؤسس على مفهوم الحرية الذي برز في المرجعية اليونانية في سياق صراع المدينة ضد الغزو الإمبراطوري قبل أن يتم استبطانه نظريا كمقولة تتحدد عينيا في مثال التحرر السياسي. كما ان مفهوم الحرية ارتبط عضويا بفكرة الحقيقة من حيث هي خطاب برهاني يتولد من ملفوظين متقابلين. وهكذا تولدت مقولة المثقف من التقاء مفهومي الحرية والحقيقة الذي نتجت عنه فكرة الثورة بصفتها قطيعة وتحولا جذريا. فالحكمة الصينية بلورت مقولة «التوازن» والانسجام مقابل الحرية، أي الاستعداد للتعامل مع شتى الخيارات والبدائل بدون الحسم النهائي بينها، وطورت نموذجا نظريا قائما على الجمع بين المتناقضات لا يتوافق مع منطق الحقيقة الصوري، ولذا لا مكان في الفكر الصيني لتجاوز الموازين القائمة ولا لفكرة الثورة كقطيعة.

فالحزب الواحد يؤدي اليوم دور الملك سابقا، من حيث هو حارس النظام الذي لا قوام للحياة الاجتماعية بدونه، ولا شك أن النموذج الصيني استطاع بعد فترة اختبار الجمع بين حيوية المسلك الليبرالي الغربي ومتطلبات الاستقرار الجماعي بالاستناد إلى الخلفية الثقافية المحلية. أما روسيا الجديدة فقد اعتمدت مقولة «ديمقراطية السيادة» التي بلورها فلادسلاف سورخوف العقل الآيديولوجي لنظام بوتين وأحد معاونيه في رئاسة الجمهورية في مقال هام كتبه في أسبوعية الخبير في نوفمبر 2006.

وينبني هذا المفهوم على الربط العضوي بين فكرة التحرر الفردي والتحرر القومي، وأولوية استقلال البلاد وسيادتها على معطيات الانفتاح السياسي الداخلي الذي يجب أن تضمنه دولة قوية ذات قدرة تنافسية في النظام الدولي.

ومن هنا الجمع بين الطابع الهرمي المركزي للنظام الإداري للدولة وهامش الحريات العامة الهامة الذي لا يتقاطع ضرورة مع دائرة السلطة الفعلية التي تتحكم فيها المؤسسة الرئاسية المرتكزة على الأجهزة العسكرية والأمنية.

ومن الواضح هنا أن «الديمقراطية الروسية» تتعارض مع نموذج السيادة المتقاسمة او المشتركة الذي أخذت به دول الاتحاد الأوروبي بعد نهاية الحرب الباردة، بل تنكص إلى الأطروحة القومية التقليدية للسيادة، ومن هنا ندرك خلفية الإشكالات التي تعوق العلاقات الروسية الأوروبية. وقد يكون النموذج الروسي الجديد مرشحا للتصدير إلى الحزام السوفياتي السابق الذي تحكمه في الغالب أنظمة شعبوية منحدرة من النخب الشيوعية السابقة.

بقي الحديث عن النموذج اللاتيني الأمريكي، الذي سنقف عنده في الأسبوع القادم.