ما يطلبه القراء

TT

بريد قراء الصحف العربية يذكرني ببرنامج «ما يطلبه المستمعون»، الذي منعنا المعلمون، ونحن أطفال في الأربعينات والخمسينات عنه وعن غيره من البرامج الترفيهية، بمثل معاداة المربين اليوم لمنوعات التلفزيون.

شدت المربيات الإنجليزيات آذاننا صغارا بحزم نشكرهن عليه كبارا، ولسعتنا خيزرانة مديرين أداروا المدارس بصرامة معسكرات الجيش.

رفض مديرو مدارس وزارة المعارف العمومية، والمعلمون الإنجليز، أن ينخفض مستوى مدارسهم عن ارقي مدارس عرفها حوض المتوسط، كفيكتوريا كوليدج، وسانت مارك الانجليزيتيين في الإسكندرية، بحجة المجانية، التي قدمها آخر أعظم وزراء المعارف العمومية المصريين، الدكتور طه بك حسين، ليتيح للفقراء ما كان حكرا على الميسورين.

استراتيجية وزارة المعارف بنيت على الخطط التوفيقية لأهم وزرائها علي باشا مبارك ( 1824-1893) مستهدفة النهوض بالطفل المصري بداية من الحضانة، وتهذيب عقله في روضة الأطفال.

حمل المعلم ـ الذي كنا نقف له تبجيلا ـ رسالة «المعارف» السامية لشحذ ذهن الطفل وتدريبه لتوسيع افقه كي يسعي بجهوده الذهنية الذاتية نحو المعرفة للرقي بنفسه وبالأمة المصرية.

وقبل وأد وزارة المعارف في مفهوم «التربية والتعليم»، التي أغلقت الذهن لتلقين نصوص الشمولية وعبادة الديكتاتور، كان المستوى الثقافي لحامل شهادة الابتدائية من وزارة المعارف المصرية، وإلمامه بالكلاسيكيات واللغتين الإنجليزية والفرنسية وأساسيات المعلومات العامة، أكثر رقيا وارتفاعا من مستوى خريجي جامعات اليوم من المحيط إلى الخليج.

شمل مفهوم جدية التعليم، كرسالة سامية، الأسر المصرية، من قمة المجتمع إلى قاعه، في تنشئة الأطفال، فلم تسمح لهم في مرحلة «الروضة» إلا بالاستماع لبرنامج «بابا شارو» فقط؛ أما صبية وبنات المرحلة الابتدائية فسمح لهم فقط بمتابعة برامج أسبوعية كمسابقة «أوائل الطلبة» بين المدارس، أو تاريخية مثل «حدث في هذا اليوم» أو «مجلة الهواء» أو «من مراسلينا حول العالم»، ثم يغلق الراديو المعلق على رف لا تصله الأيدي الصغيرة، حتى لا تخترق البرامج الترفيهية عقولهم الغضة.

تأسست الإذاعة، قبل ثمانين عاما، في حقبة نهضة مصر التنويرية. ومثل البي بي سي، كان مصدر تمويلها «رخصة الإذاعة» من البيوت كخدمة عامة تلبي حاجات كل الطبقات والمستويات التعليمية، أيام بلغت نسبة الأمية الثلثين، خاصة في الريف. وإلى جانب الأخبار كانت هناك برامج الرياضة، والدراما، والموسيقى الكلاسيكية، وبرامج تخصصية كركن المرأة، وركن الريف، ومحو الأمية، وبرامج التسلية، كالمسلسلات و«ما يطلبه المستمعون». ولم تحبذ الأسر، سواء المصرية الأصل، أو الأوروبية المتمصرة، استماع الأولاد لهذه البرامج، بينما تشغلهم بقراءة الكلاسيكيات كجزء أساسي من الثقافة اليومية للطبقة المتوسطة المصرية منذ أعاد الخديوي إسماعيل صقلها حضاريا، ووسع جيل نهضة مصر رقعتها اقتصاديا واجتماعيا.

وكثيرا ما أثمرت القراءة عن تمثيل الصغار لمسرحيات لموليير، وتشيكوف، وغوغول أمام ضيوف الأسرة؛ وتراوحت جوائز جودة الإلقاء ما بين «ريال» الملك فؤاد الفضي، و«شلن» السلطان حسين؛ وكانت ثروة معتبرة أيامها تشتري بها كرة ومضربا ومجلة سندباد وزجاجة كوكاكولا.

استطردت في التفاصيل لشرح ثمار ثقافة إبعاد الصغار عن برامج مثل «ما يطلبه المستمعون» من أغاني، ليس لقيمة ألحانها فنيا أو لأداء مغنيها، وإنما، غالبا، لكلمة أو عبارة خارج السياق.

طلب المستمع، بالبريد العادي قبل عصر الفاكس والايميل، كان إشارة،

و«غمزة عين هوائية» للحبيب، أو توسلا لكيوبيد ليوجه سهمه إلى قلب استهواه.

واليوم يتجاهل «ما يطلبه القراء» في تعليقاتهم التقرير أو المقال كله، ليتشبثوا بتلابيب جملة واحدة خارج السياق، كإشارة يرسلها قارئ السيدة زينب للمؤمنين بنظرته المحددة للعالم؛ خاصة ان الأغلبية تركز على إثبات أن الشغل الشاغل للعالم كله، هو التآمر على العروبة والإسلام.

أو عبارة تبرر فتوى القارئ بان الكاتب (مهما كانت جنسيته أو أصوله العرقية) لا بد ان يكون مارقا لان نشره في صحيفة عربية ما يناقض التيار العروبي تجعله خائنا يستحق السحل من طرف قلمه.

ومثل «الاسطى فوزي» يستعرض مدمنو «ما يطلبه القراء» أوصافهم المهنية أمام المعجبين، فيوقع «الدكتور» و«المهندس» و«الجيولوجي»، و«البيولوجي»، بما يشل عقلي العجوز الذي تلقى العلم في وزارة معارف العمومية في العهد البائد، عن فهم العلاقة بين فكرة المقال المستهدف، والبيولوجيا والجيولوجيا.

هناك تعليقات معجبين يباركون الكاتب لمجرد انسجام كلماته مع رؤيتهم للموضوع، وليس لان جدله أقنعهم بتغيير فكرتهم بعد القراءة عما كانت عليه قبلها.

وهناك أصحاب العقول التنويرية التي ترى ضرورة إخضاع الغيبيات والمسلمات للفحص العلمي والجدل المنطقي، فتثري تعليقاتهم موقع الصحيفة بمعلومات تكميلية، أو إصلاح أخطاء شائعة.

أما معظم التعليقات المصنفة تحت بند «لا تقربوا الصلاة...»، فمصدرها دائرة «ما يطلبه القراء» الضيقة نفسها، كخلية آيديولوجية شبه نائمة، يكشفها تكرار الأسلوب رغم تعدد الأسماء واستخدام عناوين بريد الكتروني مختلفة من كمبيوترات متعددة.

وتدفعني الملاحظة للتساؤل عن التقاليد والترتيبات التحريرية المتبعة في الصحف العربية للتعامل مع بريد القراء، تقليديا، واليوم في عصر مواقع الانترنت، لقلة خبرتي بالعمل في صالات أخبار صحف عربية.

الصحف البريطانية تقليديا بها ديسك كامل (مثل ديسكات الأخبار الخارجية والداخلية، الرياضة، والتحقيقات، والاقتصاد، الخ) لا يقل عدد طاقمه عن أربعة من صحفيين مساعدين وسكرتيرة إلى جانب رئيس الديسك، الذي يحضر اجتماعي التحرير يوميا لتنسيق ما ينشر من خطابات وتعليقات القراء، بما يكمل المواضيع الإخبارية، وأيضا يعكس انتقاء ما ينشر نسبة رسائل كل موضوع.

وعندما توسعت الصحف إلى مواقع الانترنت المكملة للخدمة الصحفية، زادت من إمكانيات ديسك بريد القراء، بشريا، وتقنيا، ليلائم حجم الخدمة الجديدة.

لا تنشر الصحف البريطانية أبدا رسالة إلا بعد التأكد من صاحبها كاملا كشخص حقيقي له عنوان إقامة، ورقم تليفون، ويتصل صحفي من الديسك به للتباحث في اختصار أو تعديل الرسالة، أو للتأكد من شخصيته. فما ينشر، من بريد قارئ له مسؤولية قانونية تتحملها الصحيفة وليس صاحب الرسالة أو التعليق على الموقع.

وكجزء من تدريبهم الصحفي، يستطيع محررو ديسك البريد اكتشاف ما إذا كانت الرسالة كتبت بيد حقيقية أو أنها فعل «مبني للمجهول»، أو تقدم معلومة مكملة أو مخالفة للموضوع المطروح، أم مجرد إشارة وغمزة عين في برنامج «ما يطلبه القراء».