الملك عبد العزيز.. وبناء الدولة

TT

واجهت الدولة السعودية الثالثة في مرحلة التأسيس وما أعقبها من مراحل، تحديات كبرى استطاع الكيان الناشئ أن يتجاوزها، بتمسكه بدينه الصحيح، وثباته على أصوله وحسن تطبيقه لما اندرج من تحتها من فروع، وكان ذلك نتيجة النظرة الثاقبة والإدارة السياسية المحنكة للمؤسس المغفور له الملك عبد العزيز، الذي وضع الأسس السليمة التي قامت عليها هذه الدولة.

فقد أسس الملك عبد العزيز الدولة السعودية الثالثة على مبدأين أساسيين هما:

أولاً عقيدة الدولة:ـ

هي العقيدة الإسلامية وهي الإيمان الجازم بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر الأمر، والحكم، والطاعة، والإتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فقد جعل الملك عبد العزيز إقامة شرع الله، وحماية تلك العقيدة، هو الأساس الذي بنيت عليه هذه الدولة، وقد تجلى ذلك في كثير من خطبه ومن ذلك قوله «إني أعتمد في جميع أعمالي على الله وحده لا شريك له، أعتمد عليه في السر والعلانية والظاهر والباطن، وأن الله مسهل طريقنا لاعتمادنا عليه، وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد والحرص عليها».

ثانياً مبدأ السيادة:ـ

لقد أدرك الملك عبد العزيز قبل أكثر من 77 عاماً أن مفهوم السيادة (والذي لم يدركه في وقتنا الحاضر الكثير من القادة والمحسوبين على السياسة) هو السمة المميزة للدولة، وهي أساس مفهوم قانوني، يشير إلى القوة العليا النهائية، وأن لكل دولة هيئة أو جهازا ذا سيادة، لديه القوة العليا التي تمنحها حق ترجمة إدارة الدولة إلى صيغ شرعية نافذة المفعول.

ولغياب الهيئات والأجهزة الرسمية في بداية مراحل التأسيس لهذه الدولة كانت شخصية الملك عبد العزيز تمثل تلك الهيئة، وكانت إرادته تفرض على جميع الأفراد، وكان رحمه الله صاحب السيادة أو الحكمة، الذي يتدخل لإنهاء الصراعات داخل الدولة وفرض الأمن فيها.

يقول ارمسترنج في كتابه «سيد الجزيرة»: «حيث ما جلس عبد العزيز فهو القاضي الأول والقاضي الأخير لمنازعات قومه أفراداً وجماعات سار عبد العزيز منذ حكم الرياض وخطته أن يكون لكل شخص الحق في أن يتقدم إليه بملتمسه وشكواه والويل كل الويل لمن يحجب عنه سائلاً أو مظلوماً، وهو يلتزم في أحكامه الذي يصدرها كتاب الله وسنة رسوله). «خير الدين الزركلي شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز 1985».

وبما أن السيادة هي عدم الخضوع لأي سلطة أخرى على الصعيد الداخلي والدولي، إذ لا توجد سلطة فوق سلطة الدولة، لذلك فإن للسيادة وجهين هما:ـ

السيادة الداخلية:ـ وهي امتلاك السلطة المطلقة، على جميع الأفراد والجماعات التي تتألف منها، وهي سلطة شرعية لها سن الأنظمة وفرضها بشتى الوسائل، وقد استطاع الملك عبد العزيز، أن يبسط نفوذه ويحافظ على وحدة هذه البلاد، تحقيقاً لتلك السيادة، بقمع كافة الفتن، التي ظهرت في عصره للمساس بهذه الوحدة، وسن الأنظمة وبناء المؤسسات المحققة لتلك السيادة، فقد أصدر الملك عبد العزيز (36) نظاماً ما بين عام 1926 وعام 1945 ومن أهمها أنظمة القضاء والذي يمثل ركناً أساسياً من دعائم السيادة في بناء الدول حيث كان القضاء، المستمد من الشريعة الإسلامية، والتقاضي إليها، وتنفيذ أحكامها، وتأكيده ـ رحمه الله ـ على أن لا سلطان على القضاء والقضاة، لغير أحكام الشريعة الإسلامية، والأنظمة المرعية، التي لا تتعارض معها، وتطوير آليات تنفيذه، من أولى اهتماماته ـ رحمه الله ـ.

وقد واجه تطوير إدارة القضاء الشرعي بعض الصعوبات في مراحل تطبيقه، وذلك لوجود لبس لدى البعض بين مفهوم تطوير إدارة القضاء وإجراءته (لتكون سنداً ومعاوناً للقضاة لتنفيذ الأحكام ولتسهيل إجراءات التقاضي) وبين القضاء نفسه، فقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة في وقته يحث منسوبي القضاء على التنظيم.. واعتبر أن ترك التنظيم الإداري وعدم العمل به بحجة أو بأخرى هو من جهالات المغرضين حيث كتب لأحد منسوبي القضاء يقول «وبعد: نشير إلى كتابكم رقم 246 وتاريخ 9/11/77 وقد سبق أن بعث إليكم كتاب برقم 5269/2 وتاريخ 17/10/77، وشرح لكم الغرض من هذه الأنظمة واختصاص كل دفتر.

ونفيدكم بأن هذه الأعمال لابد منها، ولا نعفيكم أبدا، وهذا من المصلحة العامة، ولا محضور في ذلك شرعاً قطعياً، ولا نقتصر على ذلك بل نقول إنه مما تقتضيه المصلحة الشرعية، ومن أسباب حفظ الحقوق على أربابها، ولا التفات إلى وساوس الموسوسين، وجهالات المغرضين.

ولو أمكن بقاء الأمور على حالتها الأولى والإهمال والإضاعة على حالتها السابقة لما احتيج إلى وضع هؤلاء الموظفين والاستعدادات التامة بما يحفظ الحقوق لأصحابها لهذا الأمر ثم يهمل أو يقابل بالرفض، فهذا مالا نرضاه، ويجب العمل بذلك، واعتماد موجبه. والسلام عليكم».

رئيس القضاة.

«ص/ق5542/2 في20/11/1377هـ»)

فنظام الحكم في هذه الدولة قائم على أساس الدين الذي يتمثله ولي الأمر في نفسه، ويرتبط به الناس على مبدأ السمع والطاعة، حسب ما قضت به الشريعة الإسلامية، وأن ما يصدره ولي الأمر من أنظمة واجب اتباعها. وتأكيد علماء المملكة على هذا المبدأ الشرعي في مراحل البناء لهذا الكيان وترسيخه في أذهان الرعية عامل مهم في تحقيق الاستقرار، والعدالة، والسيادة الدينية والسياسية لهذه البلاد «فقد كانوا ولا يزالون دعاة بناء لا طلاب حكم ومال».

السيادة الخارجية:ـ وهي استقلال الدولة فعلياً وقانونياً عن سيطرة أي دولة أخرى واعتراف الدول بها، وحقها في التمثيل الدبلوماسي، وعضوية المنظمات الدولية، وحريتها اتخاذ القرارت من دون قيد أو تردد إلا الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي والعرف والاتفاقات الدولية الثنائية والإقليمية.

وقد حظي الملك عبد العزيز باعتراف دولي باستقلال بلاده فعلياً وقانونياً، عن سيطرة أي دولة، وتم تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدولة الناشئة وبقية دول العالم، فبلغ عدد الدول الممثلة في بلاده حتى عام 1948، 26 دولة وبلغ عدد ممثليات بلاده في الخارج حتى عام 1951،16 ممثلية.

وانضمت المملكة لعدد من المنظمات الدولية، ووقعت عددا من المعاهدات، والاتفاقيات الدولية، فبلغ عدد هذه الاتفاقيات الدولية 64 معاهدة، و26 اتفاقية حتى عام 1950م.

فها هو الملك عبد العزيز في خطبة له في جدة يقول: «إن للدول الأجنبية المحترمة، علينا حقوقاً ولنا عليها حقوقاً لهم، علينا أن نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من العهود «إن العهد كان مسؤلاً» وإن المسلم العربي يشين بدينه وشرفه، أن يخفر عهداً أو ينقض وعداً وإن الصدق أهم ما نحافظ عليه إن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب ومصالح رعاياهم المشروعة محافظتنا على أنفسنا ورعايانا بشرط ألا تكون تلك المصالح ماسة استقلال البلاد الديني أو الدنيوي تلك حقوق يجب علينا مراعاتها واحترامها وسنحافظ عليها ما حيينا إن شاء الله»، «خير الدين الزركلي في كتابه: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز1985».

بهذه الرؤية الواثقة التي تحافظ على سيادة البلاد الدينية والسياسية تمكن الملك عبد العزيز من جعل مسار العلاقة بين بلاده والعالم أجمع مسار تعاوناً إيجابياً وليس مسار مجابهة، وهذا ما يؤكد ويعزز أن الملك عبد العزيز لم يكن فارساً وقائداً شجاعاًَ فقط، بل كان دبلوماسياً بارعاً وصاحب مشروع حضاري أساسه دين صالح لكل زمان ومكان.

يقول الجنرال الأمريكي باتريك هيرلي المندوب الخاص للرئيس روزفلت عندما قابل الملك في الرياض «الملك عبد العزيز أحكم وأقوى من عرفت من قادة البلاد العربية وإنه لرجل بعيد النظر، نافذ العزيمة مستعد لقيادة شعبه إلى التمشي مع ركب التقدم العالمي»، (خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز1985).

ونحن اليوم في المملكة العربية السعودية نسير على منهج إسلامي معتدل، يتقبل الجديد ويتطور مع متطلبات العصر، ويبحث دائماً عن البديل الأنسب وعن الحل الأفضل أياً كان مصدره مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها».

فالتطوير والإصلاح في هذه الدولة عملية مستمرة فها هي الاتفاقيات المتبادلة مع الدول الأخرى تبرم والأنظمة تصدر تباعاً منذ عهد الملك عبد العزيز رحمه الله إلى ما نعيشه اليوم في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز من نهضة شاملة وإصلاحات كبرى على كافة المستويات ترسيخاً لمبدأي العقيدة والسيادة.

* كاتب سعودي

[email protected]