إثارة البحيرات والذكريات

TT

المشكلة هي أن الحروب الكبرى، أو القضايا الكبرى، أو المآسي الكبرى، تبدأ دائماً هكذا: أرعن أو طفل أو متهور يلقي حصاة على سطح البحيرة الهادئ. وفجأة يستيقظ كل من حولها. أقصد في هذا الجانب وفي ذاك وفي ذلك وفوق الأشجار وتحتها، ويتذكر الجميع، أن القيلولة شيء مخادع ولا ضرورة له. هبوا.

المشكلة الثانية أن المزاج التركي لا يعرف المزاح. هذا في الأصل، فكيف وقد شاهد ما حل بالعراق، عبر الحدود؟ لقد أعدم العسكريون الاتراك رئيس الوزراء عدنان مندريس أواخر الخمسينات بتهمة «الفساد». والحقيقة أنه كأن يتواطأ مع الإسلاميين. ودخلوا الى سورية في الثمانينات بحثاً عن عبد الله أوجلان. ودخلوا العراق في السنوات الماضية نحو 8 مرات على الأقل، بكل قواهم. وفيما يعتقد الأكراد أنهم يقاتلون من أجل هويتهم الواضحة والموحدة، يغفلون عن أن الأتراك يذهبون الى الموت بسبب قوميتهم المتعددة الهويات. ومن أجل «توحيد» هذه الهوية أرسل مصطفى أتاتورك مليون يوناني الى اليونان واستقبل 400 ألف يوناني مسلم في أكبر عملية تبادل «عرقي» من نوعها في التاريخ. ولعلنا ننسى غالباً أن أتاتورك اختار بلدة صغيرة تدعى أنقرة في برِّ الأناضول عاصمة له، وليس اسطنبول وما فيها من جذور القسطنطينية ومن فيها من جاليات قديمة وحديثة تجمعت على ضفاف البوسفور، على الحدود ما بين آسيا وأوروبا.

لذلك خرجت أنقرة الى غضب سياسي غير مسبوق في حكومات أردوغان، عندما تجمع عليها في موعد واحد التصويت الأميركي مع الأرمن والحريق الكردستاني غير المنتظر. فربما كان يخيل إليها في قراراتها أن الأرمن عادت لهم أرمينيا وانتهى الأمر، والأكراد صارت لهم كردستان العراق وصار لهم عراقي على رأس العراق. أي خطوة أخرى، من أي كان، تعتبر عبوراً للسياج التركي. وهذا يقتضي عادة أعنف أنواع الردود: القتل إذا كان المتحرش صحافياً تركياً يريد اعتذاراً للأرمن، أو النفي الطوعي إذا كان يحمل نوبل الآداب مثل أورهان باموك، أو الاقتحام اذا كان القدوم من وراء الحدود، خصوصاً حدود الحنين وذكريات الامبراطورية. يجب أن يتذكر الأكراد والأرمن ومن يعنيه الأمر، أنه حتى 1955 كان ربع سكان اسطنبول من اليونانيين الأتراك. وقد انتهى ذلك في أسبوع واحد. وهم الآن ثلاثة آلاف.

صحيح أن اتاتورك فرض العلمانية بمرسوم كما في أيام الباب العالي. لكنه أيضاً علم الجميع أن القومية التركية ستبقى فوق الجميع مثل القومية الألمانية. ومن تجمع من أعراق داخل الامبراطورية خلال خمسة قرون، عليه أن ينسى من أين جاء ويتذكر فقط أين هو. وأنت في تركيا، لا في أرمينيا ولا في كردستان. ولا حتى في أميركا!