ديمقراطية أمريكا اللاتينية اليسارية

TT

من المفارقات الغريبة، انه فيما انهارت الأحزاب الماركسية والاشتراكية في معاقلها التقليدية بأوروبا، وصلت التشكيلات اليسارية الراديكالية الى السلطة في غالبية بلدان أمريكا اللاتينية عن طريق آلية التناوب الديمقراطي السلمي.

بدأت الديناميكية من فنزويلا عام 1998 بانتخاب الشخصية المثيرة للجدل هيغو شافيز على رأس البلاد، وتلاه في يناير 2003 النقابي العمالي لولا دو سيلفا في البرازيل، ومن بعده نستور كرشنر في الأرجنتين و تابري فاسكيز في الاورغواي، انتهاء بايفو موراليس في بوليفيا، باستثناء المكسيك، أصبح اليسار حاكما في منطقة كانت الى عهد قريب محكومة من أنظمة عسكرية استبدادية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، عرفت هذه البلدان في التسعينات برامج الإصلاح الهيكلي بإملاء من صناديق التمويل الدولية (من خصخصة وسياسات ليبرالية وانفتاح على السوق العالمية)، وكان من المؤمل ان تخرج من عنق الزجاجة بفضل تحقيق التوازنات الاقتصادية الكبرى، بيد ان عقد الانفتاح الليبرالي أصبح يطلق عليه «العشرية الضائعة» في الأدبيات السياسية المحلية.

تولدت عن الأزمات الاقتصادية العاتية نقمة عارمة، برزت في شكل احتجاجات وانتفاضات واسعة قوضت الحكومات الليبرالية المتوحشة، ولم تستطع الحركات الاجتماعية والقوى السياسية التقليدية تأطير هذه الديناميكية الاحتجاجية التي حملت الى الواجهة تيارات وتشكيلات جديدة، تنطلق من خلفيات ومرجعيات مغايرة.

والسؤال المطروح هنا هو ما هو الخط الناظم لهذه التيارات التي تبدو شديدة التمايز والاختلاف من حيث الموجهات الايديولوجية والآليات التنظيمية ونمط الخطاب السياسي؟

ما الذي يجمع بين الثورة البوليفارية في فنزويلا وحركة عديمي الشغل في الأرجنتين وحركة المزارعين المحليين في بوليفيا وحزب العمالي في البرازيل؟

وما هي علاقة هذه الاتجاهات الجديدة بالتشكيلات اليسارية الثورية التي عرفتها المنطقة في الستينات، ولا تزال الحالة الكوبية من شواهدها الحية؟ يرى الفيلسوف الايطالي توني نغري في كتاب صدر له مؤخرا حول التجربة اللاتينية الأمريكية الجديدة ان هذه التجربة تشكل مؤشرا على التحول الجذري الذي مس طبيعة الحقل السياسي للدولة القومية في مرحلة العولمة.

ومن ابرز آثار هذا التحول انهيار شكل الجسم السياسي التقليدي للدولة الليبرالية الديمقراطية أي الأحزاب التي تعبر عن ايديولوجيات نسقية او مواقع اجتماعية ثابتة. فالتنظيمات القائمة اليوم في أمريكا الجنوبية تأخذ شكل شبكات أفقية مرنة، وتجمع بين مكونات مجتمعية متمايزة، وتستمد مرجعيتها المعمارية من سجلات ايديولوجية ومفهومية متعارضة.

قد تكون قراءة نغري للتجربة اللاتينية الأمريكية متأثرة الى حد بعيد بأعماله النظرية الهامة التي صدرت في الأعوام الأخيرة حول ثنائية «الإمبراطورية» و«الجمهور» (عنواني كتابيه المشهورين)، الا انه مما لا جدل فيه ان التيارات اليسارية الجديدة في أمريكا الجنوبية ارتبطت بحركة العولمة البديلة في بعدين أساسيين جوهريين هما: الخطاب المناوئ لليبرالية الرأسمالية المتوحشة ولهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي. ففي حين كانت الحركات الاجتماعية التقليدية حاملة لمشروع وطني يرتكز على بناء دولة قومية قوية «فان التيارات الاحتجاجية الجديدة تتمحور حول مطالب المجموعات المنشقة المحلية التي ترفع اما شعار التميز العرقي والثقافي والخصوصية الحضارية كما هو شأن حركات السكان الأصليين في بوليفيا والايكواتور والمكسيك؛ والمابوش في تشيلي والارجنتين، او شعار الحفاظ على البيئة ورفض النموذج الرأسمالي الاداتي لاستثمار الطبيعة وتعنيفها.

وعلى الرغم من محاولات رئيس فنزويلا شافيز إنشاء جبهة إقليمية واسعة تجمع بين هذه التيارات الاحتجاجية على اختلافها في المرجعية والتوجه، الا انه من الواضح ان الأمر يتعلق في الواقع بتجارب متمايزة اشد التمايز، قد يكون من الممكن التمييز داخلها بين نموذجين كبيرين:

ـ نموذج يساري إصلاحي اقرب للخط الاشتراكي الأوروبي، يمتاح بعض تصوراته ومفاهيمه من نهج الخط الثالث الذي بلوره المفكر البريطاني انتوني غيدنز وتبناه حزب العمال الانغليزي في عهد رئيس الوزراء السابق توني بلير.

يقوم هذا النموذج حاليا في البرازيل، أهم بلدان المنطقة وأكثرها حضورا في الساحة الدولية، كما نجده في التشيلي والاورغاوي، اللذين تحكمهما نشكيلات يسارية معتدلة ورثت الأحزاب الشيوعية السابقة.

ـ نموذج راديكالي شعبوي بنغمة ثورية عاتية، يعبر عنها اجلى تعبير خط الرئيس الفنزويلي تشافيز الذي يجمع بين نزوع قومي تقليدي ونزعة عالم ثالثية صدامية وطموح إقليمي للتميز عن الجارة الشمالية القوية يقوده الى التحالف مع كوبا كاسترو والانفتاح على الأنظمة التي تصنفها الولايات المتحدة في خانة محور الشر والعداء.

ومن هنا لا يمكن الحديث عن نموذج أمريكي لاتيني منسجم، حتى لو كانت هذه التجارب على اختلافها تلتقي في خروجها على البديل الليبرالي الديمقراطي الذي أرادت الولايات المتحدة تسويقه للمنطقة. صحيح ان الأنظمة العسكرية الدكتاتورية انهارت، وان البلدان الامريكية الجنوبية اعتمدت الأسلوب الديمقراطي التعددي، ونظمت فيها انتخابات نزيهة وشفافة، الا ان الديناميكية الديمقراطية حملت الى الواجهة قوى مجتمعية وسياسية رافضة للخيار الليبرالي وللنظام الاجتماعي الذي يقوم عليه.