حين يفقد العقل موقعه في القرار الأمريكي

TT

حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن السياسة الأمريكية تفقد توازنها، وتبدي استعداداً مدهشاً للتخلي عن المنطق والعقل. يسري ذلك بوجه أخص على الإدارة الحالية، التي اختطفها المحافظون الجدد وورطوها في غزو العراق، وهم الآن يلحون عليها بالقيام بمغامرة أخرى تستهدف إيران. ففي المذكرات التي كتبها جورج تينيت رئيس المخابرات المركزية السابق (في الفترة من 1997 الى 2004)، قال إنه ذهب للقاء الرئيس جورج بوش فجر اليوم التالي لأحداث سبتمبر، وهو يدلف الى مقر الرئيس شاهد ريتشارد بيرل، أحد عرابي المحافظين الجدد الذي كان وقتذاك رئيساً لمجلس مستشاري وزير الدفاع، فالتفت إليه الرجل وقال: يجب أن يدفع العراق ثمن ما حدث أمس، فهم يتحملون المسؤولية. فوجئ تينيت بهذا التعليق، وأدهشه أن يتم الربط بين تدمير البرجين الذي اقتنع منذ اللحظة الأولى بأنه من تدبير تنظيم القاعدة، وبين نظام الرئيس صدام حسين. وإذ لاحظ أن بيرل كان خارجاً لتوه من لقاء الرئيس بوش، فإنه استنتج على الفور أن فريق المحافظين الجدد بدأ في «شحن» عقل الرئيس وتعبئته لضرب العراق. ولم يستغرب ذلك، حيث لفت الانتباه في مذكراته الى أن ريتشارد بيرل وبول وولفوتيز ودوجلاس فيث، وهم الثلاثي الذي ألح على غزو العراق، كانوا من بين مجموعة الـ 18 التي أعلنت عن مشروع «القرن الأمريكي الجديد»، ودعوا فيه منذ عام 1998 الى الإطاحة بنظام صدام حسين. وكانوا وراء إصدار الكونغرس الذي اتخذ في عهد الرئيس السابق كلينتون، لقانون تحرير العراق، واعتمد له وقتذاك مبلغ مائة مليون دولار. وكان اللوبي الصهيوني هو الداعم الأكبر لذلك كله، حيث ظل وجوده مشهوداً سواء في تيار المحافظين الجدد، أو في مجموعة الـ 18، أو في الأصوات التي أيدت إصدار قانون تحرير العراق.

كرر تينيت في أكثر من موضع أنه كان مشغولاً بالمعركة ضد تنظيم القاعدة، معتبراً أنها الخطر الحقيقي الذي يهدد الولايات المتحدة، بينما كان الآخرون ـ جماعة المحافظين الجدد ـ مشغولين بإسقاط النظام العراقي. ولذلك فإنهم ظلوا طيلة الوقت يضغطون على المخابرات المركزية ويختلقون الأسباب والذرائع لإثبات أمرين، أولهما أن ثمة علاقة بين نظام صدام حسين وبين تنظيم القاعدة، وثانيهما أن العراق يملك أسلحة الدمار الشامل، من شأنها أن تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي. ورغم أن الـ (سي آي إيه) كانت مقتنعة طيلة الوقت بأنه لا دليل على أن ثمة علاقة بين النظام العراقي والقاعدة، وأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل ليس مقطوعاً به، إلا أن مجموعة المحافظين الجدد وعلى رأسهم ديك تشيني نائب الرئيس، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ومن ورائهما الأسماء السابق ذكرها، هؤلاء كانوا يضمرون قرار الحرب الذي دعوا إليه في عام 1998 ونجحوا في فرضه في نهاية المطاف، عام 2003. ولم تكن أحداث 11 أيلول / سبتمبر إلا ذريعة استخدموها لتنفيذ مشروعهم.

ما يجري هذه الأيام في واشنطن يكاد يكرر السيناريو ذاته. إذ من الواضح أن قرار الحرب ضد إيران موضوع على الطاولة، في حين يجري البحث عن المبررات والذرائع لتسويغ شن الهجوم على الأهداف الإيرانية، مع فارق جوهري، هو أن غزو العراق في عام 2003 لم تكن عواقبه ظاهرة للعيان، وما حدث بعد ذلك كشف للجميع عن أن القرار كان خاطئاً وأنه كلف الولايات المتحدة الكثير، عسكرياً واقتصادياً وأخلاقياً، الأمر الذي كان له دوره في التأني هذه المرة. على الأقل فذلك واضح في الضغوط القوية التي يمارسها الديمقراطيون في الكونجرس، لمنع الرئيس بوش من إصدار قرار بالحرب. وهو واضح أيضاً فيما نشر عن معارضة جنرالات وزارة الدفاع (البنتاجون) لارتكاب هذه الحماقة، استناداً الى دروس الورطة الأمريكية في العراق.

استوقفتني في هذا السياق مقالة افتتاحية في مجلة «نيوزويك» عدد (10/30) كتبها رئيس تحريرها فريد زكريا ونقد فيها الذرائع التي تطلق في الولايات المتحدة بخصوص ما وصفه بأنه هيستيريا الحرب ضد إيران، ووصف فيها الجدل الدائر حول الموضوع بأنه منفصل عن الواقع، ولم يعد يمت له بصلة. وهو يصور الواقع قال زكريا إن الاقتصاد الإيراني ليس بحجم اقتصادنا، وميزانية إيران الحربية تصل الى 4.8 بليون دولار. وهي لم تغز أي بلد منذ أواخر القرن الثامن عشر. أما الولايات المتحدة فناتجها المحلي أكبر بـ 68 ضعفاً من ناتج إيران، وإنفاقها العسكري أكبر بـ 110 أضعاف. واسرائيل وأغلب الدول العربية متحالفة بشكل سري أو علني ضد إيران. ومع ذلك يريدوننا أن نصدق أن طهران على وشك أن تقلب النظام الدولي، وتستعيض عنه بنظام إسلامي فاشي. وهو ما علق عليه متسائلاً: في أي كوكب نعيش؟!

وأضاف: إنهم يدعون أن أحمدي نجاد رئيس الجمهورية في إيران على وشك إطلاق صواريخه النووية. في حين أن إيران لا تملك أسلحة نووية بعد. ولن تمتكلها قبل فترة تتراوح بين ثلاث وثماني سنوات وفقا لوكالة المخابرات المركزية (سي.آي. إيه)، وتقدير وكالة الطاقة الذرية، وفي هذه المرحلة التي يتحدث عنها، فقد لا يكون نجاد رئيساً. (أورد الكاتب ما ذكره المرشح الرئاسي رودي جولياني في خطاب ألقاه مؤخراً، وقال فيه إنه إذا كان بالإمكان ردع الاتحاد السوفيتي والصين خلال الحرب الباردة، فإنه لا يمكن ردع إيران لأن النظامين السوفيتي والصيني كان لديهما بقايا من التفكير المنطقي). وعلق على هذه الملاحظة قائلاً: يا للغرابة. فجولياني اعتبر أن ستالين وماو اللذين أمرا بقتل ملايين الناس من شعبيهما، وشجعا على التمرد والثورات، وجوعا مناطق بأسرها لأنها كانت تعارضهما، هذان الرجلان كانا منطقيين، في حين أن أحمدي نجاد ليس كذلك، بدون أن يدلنا أحد على شيء من الأعمال الشنيعة التي ارتكبها حتى يقارن مع ستالين وماو. وخلص من ذلك الى القول بأن أحد أغرب الأمور المحيطة بالهستيريا الحالية فيما يتعلق بإيران هو أن المحافظين أصبحوا راضين عن اثنين من أكبر السفاحين في التاريخ.

استطرد فريد زكريا قائلاً: لو كان علي أن أختار من هو المجنون، كيم ايل يونج الكوري الشمالي وأحمدي نجاد، ما كنت لاحتار. فقبل عقد ترك الزعيم الكوري مليوني شخص من شعبه يموتون جوعاً وأجبر الآخرين على أن يقتاتوا بالعشب، فيما راح يستورد جالونات النبيذ الفرنسي باهظ الثمن. وقد باع تكنولوجيا نووية لدول «مارقة» أخرى، وهدد جيرانه من خلال اطلاق صواريخ تجريبية. مع ذلك فإن الولايات المتحدة سوف تشارك في حملة للإغاثة الدولية لمصلحة بيونج يانج تبلغ كلفتها بلايين الدولارات.

أضاف: نحن على مسار لا يمكن الرجوع عنه سيؤدي إلى مواجهة مع بلد لا نكاد نعرف عنه شيئاً، ذلك أن الحكومة الأمريكية لم ترسل دبلوماسيين إلى إيران منذ نحو 30 عاماً. وما من تواصل بيننا وبين المجتمع المدني النابض بالحياة في ذلك البلد. لذلك فإن إيران بلد نجهل عنه كل شيء، تماماً كما كان العراق عام 2003. المرة الوحيدة التي تفاوضنا فيها جدياً مع طهران كانت في الأيام قبل الأخيرة من الحرب في افغانستان. وعن تلك المفاوضات قال جيمس دوبنز، ممثل بوش في مؤتمر بون الذي جرى فيه ترتيب الوضع في كابول، إن الإيرانيين كانوا محترمين ومريحين ومتعاونين جداً. وكان دورهم أساسياً في نجاحنا، حيث أقنعوا تحالف الشمال بالقيام بالتنازلات النهائية التي طلبناها.

ختم الكاتب مقالته بقوله إن برنارد لويس الاستاذ بجامعة برينستون، والمستشار المقرب من الرئيس بوش ونائبه تشيني، كتب في العام الماضي مقالة في «كريستيان ساينس مونيتور» تنبأ فيها بأن الرئيس أحمدي نجاد سوف يدمر العالم في الثاني والعشرين من اغسطس 2006. وحين شرح وجهة نظره في تحديد ذلك الموعد ذكر أنه في هذا التاريخ يحتفل المسلمون بسفر النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) ليلاً على صهوة البراق، وهو حصان مجنح، وقصد المسجد الأقصى، الذي يعني القدس عادة، ومن ثم الى الجنة، وعاد أدراجه بعد ذلك. وأضاف السيد لويس أن هذه المناسبة (يقصد الإسراء والمعراج) ستكون تاريخاً ملائماً لنهاية اسرائيل والعالم إذا اقتضى الأمر. وكان تعليق الكاتب على هذا الكلام إنه مضحك، لولا أنه في غاية الخطورة! هذا نموذج للآراء التي تروج في الولايات المتحدة، وتنطلي على أصحاب القرار فيها. رغم أن بعض العقلاء هناك يحاولون كبح جماح الجنون وإعادة العقل الى موقعه في قرار البيت الأبيض، لكن من غرائب الدهر وأعاجيبه أن المجانين ينجحون في فرض آرائهم أحياناً ـ ولعل في ذلك حكمة تتضح لنا معالمها بعد حين.