مرة أخرى.. عن الوحدة والتنوع في العالم العربي!

TT

كانت الساعة قد تعدت منتصف الليل، وأصبحنا في صباح الأحد الثامن والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) عندما وصلت الى مطار دبي في صحبة بعض من جماعة القاهرة التي أقبلت لكي تحضر مؤتمر «المعرفة» الأول الذي يدشن بداية عمل مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، التي وضعت لنفسها هدف ترقية التعليم في العالمين العربي والإسلامي. وفي قاعة كبار الزوار، اجتمعت جماعتنا مع القادمين من بيروت ولندن. ووجد مثقفو العالم العربي بعضهم في أحضان بعضهم الآخر مع الابتسامات والتعليقات حول الشعر الذي شاب، وذلك الذي لم يبق منه شيء على الإطلاق. كانت المسافات شاسعة في الفكر والرؤى، ولكن كان هناك نوع من «الرفاقية» الحميدة التي نجمت عن مراقبة تعيسة لأحوال العالم العربي طوال العقود الماضية من نوافذ وأبواب الصحافة والإعلام والمؤسسات البحثية والأكاديمية. وببساطة كنا جميعاً «عربا» جاءوا جميعاً في قوارب شتي، وبقي أن نعرف ما إذا كان ممكنا أن نمتطي سفينة واحدة. وساعتها كان ظني أن ذلك ممكن فقد تغير العالم، كما تغير العالم العربي، وتغير كل قطر، وتغيرنا نحن كأفراد، والمهمة التي نحن بصددها كانت كلها تحض على المعرفة والبحث العلمي حيث يفترض أن تتواضع الآيديولوجية التي تدور في أفلاك بعيدة عن أرض ما يجري بيننا وحولنا.

وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال، فإن الحركة الجماعية جعلت الوصول الى الفندق يأخذ وقتا طويلا؛ ولكن الوقت لم يكن ضائعاً كله. فقد كانت المهمة التي كلفت بها في المؤتمر هي إعداد ورقة عن الوحدة والتنوع في العالم العربي؛ وبشكل ما فقد بدا لي أنه لا يوجد ما يعكس هذه الحقيقة في العالم العربي قدر الحالة في دبي حيث المدينة زاخرة بألوان وأشكال مختلفة ومتنوعة من البشر. ولكن المدينة بدت لي تعبيرا آخر عن العولمة، وتعبيرا آخر عن المدن العالمية التي يقبل عليها جميع العالم في لحظة معينة ثم ينفضّ، وما بين الإقبال والانفضاض تتكون مجموعات هائلة من المصالح التي يحصل كل من أقبل ومن انفض على نصيبٍ وحظٍ. وباختصار، بدت المدينة واقعة ضمن مجموعة جديدة من مدن العالم مثل هونج كونج وسنغافورة حيث يلتقي العالم وينفض في كل لحظة، وفي كل مرة يضخ في دماء العالم دماء جديدة لا تعرف أهواء ونزوات الدول وإنما تعرف أهواء ومصالح الإنسان. وما بين المطار والفندق، كانت دبي تبدو أحيانا كما لو كانت سفينة نوح تركب فيها أجناس ولغات وأعراق وألوان. وإذا كانت هناك دائما هواجس كيف نجح الناس والمخلوقات في التفاهم في سفينة نوح، فإن دبي تبدو ناجحة تماما في التواصل ما بين ما هو غير قابل للاتصال.

ولكن ما نجحت فيه دبي لم يكن بالضرورة هو ما قال به المؤتمر؛ فقد كان مشروع المدينة ـ كما جاء في خطاب أميرها ـ مشروعا للتقدم وتعميق المعرفة في إطار من العولمة والتواصل مع العالم. ولكن المشروع العربي ـ كما في خطاب الأمين العام لجامعة الدول العربية ـ كان متوجسا وخائفا من ذات العالم حيث تأتي رياح التقسيم والهيمنة والسيطرة. وفي الخطاب الأول، كانت المؤسسة التعليمية جزءا من العالم وعلمه وتيار التقدم الإنساني، وفي الثاني كان انفصالا عنه واستعدادا لمقاومته. وكما هي العادة فقد صفق الجمع للخطابين بنفس الدرجة من الحماس!

وجاء نصيبي مع الجلسة الأولى التي أدارها بحكمته الصديق الدكتور مصطفي الفقي، وكان ملخص ما قلته: أولا أن قضية التنوع العرقي والطائفي والمذهبي هي جزء لا يتجزأ من طبيعة الدولة القومية الحديثة التي لا تقوم على أسس دينية أو مذهبية مثل الإمبراطوريات وإنما على أساس من المصلحة المشتركة. وثانيا أن الأوضاع التاريخية فرضت على الدول أن تبحث عن طريقة ما للتعامل مع أوضاع التنوع بحيث تحافظ على وحدة الدولة من ناحية، والتعبير عن التنوع الموجود داخلها من ناحية أخرى. وثالثا أن الدولة العربية الحديثة مرت بنفس التجربة، فقد كان عليها أن تتعامل مع واقع من التنوع ينفي تماما وجود حالة من الصفاء القومي أو الوطني. ورابعا أن العالم العربي لم يكن ناجحا في التعامل مع قضايا التنوع هذه، وفي كثير من الأحيان أدى الفشل الى حالات من الحرب الأهلية. وفي الوقت الراهن، فإن هناك في العراق والسودان والصومال حالة من الصراع المسلح الذي يأخذ أشكالا شتى؛ كما أن هناك دولا أخرى تعيش حالات من التوتر الطائفي كما هو الحال في لبنان وسوريا وجيبوتي. وفي حالات ثالثة، توجد درجات مختلفة من الاحتقان. وخامسا أن العالم في تجاربه المختلفة حاول أن يصل الى حل لمشكل التنوع العرقي والطائفي بأساليب متنوعة بحيث لا يمكن التوصل الى وصفة جاهزة يصلح تطبيقها في كل الأحوال والدول.

ولكن بالنسبة للعالم العربي تحديدا، فإن هناك عددا من التوصيات التي يمكن استخلاصها: أولها أنه لا يجوز إنكار القضية كلها، فالتنوع والتعدد هو من الحالات الطبيعية، وما لم يتم إدراكها والتعامل معها، أو يتم النظر اليها كنوع من المؤامرات الأجنبية، فإن القضية على الأغلب سوف تتحول الى أزمات سياسية كبري. وثانيها أن الاعتراف بالتنوع يعني المعرفة الواسعة عن الطوائف المختلفة واعتبارها جزءاً من التراث القومي، فلا يجوز ألا تعرف الأغلبية السنية العربية إلا القليل عن المسيحية والمذهب الشيعي والأقليات والقبائل المختلفة بحيث يكون ذلك جزءا من الاهتمام الثقافي للدولة. وثالثها أن وجود حد أدنى من المساواة القانونية وحقوق المواطنة شرط ضروري لخلق مناخ للتفاهم بين الجماعات المختلفة بل وحتى لخلق مناخ للتوافق حول النظام السياسي إذا كان ذلك ضرورياً. ورابعها أن الدولة التي تعيش حالة من النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام تكون أكثر استعدادا وقدرة على التعامل مع مشكلات التنوع لأنها تخلق هدفا مشتركا في تحقيق الرخاء. وكان ذلك واحدا من الأسباب المهمة لنجاح التجربة الهولندية بين الكاثوليك والبروتستانت، والماليزية بين المسلمين والصينيين. وخامسها أن الدولة التي تعيش في حالة سلام مع جيرانها، أو مع النظام الدولي، تكون في العادة أكثر قدرة على التعامل مع انقساماتها الداخلية، ليس فقط لأنها توفر على نفسها قيام الخصوم الخارجيين استغلال انقساماتها في الصراع، وإنما لأن الصراع الخارجي كثيرا ما يكون سببا في منع التوافق السياسي أو تدميره إذا كان موجودا. وبالتأكيد، فإن التجربة اللبنانية كان ممكنا أن تكون أكثر نجاحا لو لم يكن لبنان جزءاً من معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وسادسها أن التنوع والاختلاف والتعدد والتوافق كلها تعد حالة من حالات الثقافة السياسية غير المعروفة في الدول العربية عموما بسبب الفكر القومي في مرحلة والفكر الاشتراكي في مرحلة أخرى، والصراع مع الغرب وإسرائيل في كل المراحل، وكل ذلك يجعل خلق هذه الثقافة ونشرها بوسائل الإعلام والتعليم والتنشئة مسألة ضرورية للتعامل مع تنوع العالم من ناحية والتعامل مع تنوع الداخل من ناحية أخرى.

بعد ما قلته تعددت المداخلات والتعقيبات الأخرى، وتلك قصة أخرى في أي حال!