باكستان: سيناريوهات ما بعد الطوارئ

TT

انتشرت شائعة يوم الاثنين الماضي بأن الرئيس الجنرال برويز مشرّف وُضع في الإقامة الجبرية. في تلك الأثناء كان مشرّف القائد الأعلى للقوات المسلحة يُحكم السيطرة على باكستان، وكانت المؤسسة العسكرية، كما جرت العادة، تنفذ الأوامر التي تصدر عن مكتب القائد الأعلى، وهذا يؤكد تمسك مشرّف بهذا المنصب الذي يتيح له السيطرة الكاملة على باكستان. وحتى الآن يبدو أن كبار القادة العسكريين يقفون وراءه ويدعمون قراراته.

كنت أشرت في مقال سابق في 16 آب (أغسطس) الماضي، أن مشرّف وضع الخطط لإعلان حالة الطوارئ، ويومها نصحه كبار قادة الجيش بالتخلي عن فرض حالة الطوارئ فأصغى لنصيحتهم.

هذه المرة، وبعد أن ظل التلويح بإعلان حالة الطوارئ قائماً، عقد مشرّف ولثلاثة ايام اجتماعات متواصلة مع كبار قادة الجيش ومع حكام المناطق الرئيسية، وتركزت المحادثات حول نوعية حالة الطوارئ، خصوصاً أن الضغط على الحكومة لإجراء الانتخابات يتصاعد، وقد تنامى إلى أسماع مشرّف أن المحكمة العليا ستصدر قراراً بعدم شرعية انتخابه رئيساً للجمهورية، وذلك بعدما أطلقت سراح 61 متهماً بالإرهاب، وأدانت استمرار إغلاق «المسجد الأحمر»، ثم إنها أعادت في الأسبوع الماضي تفعيل الحكم الذي يدعم عودة رئيس الوزراء السابق نواز شريف إلى باكستان، ودرست مسألة محاكمة الحكومة التي أعادته من حيث جاء، في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي.

وتعليقاً على قرارات المحكمة العليا، قال مسؤول أمني باكستاني:«إذا بدأت المحاكم تتدخل في مثل هذه الشؤون الأمنية، فإن قوى الأمن ستتوقف عن العمل ولن يكون في مقدور أحد لاحقاً إيقاف زحف طالبان إلى كبريات المدن الباكستانية».

لقد برر مشرّف إعلان حالة الطوارئ (وقّع على القرار بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يعني حكماً عسكرياً)، بتزايد العمليات الإرهابية ضد البنى التحتية للدولة وأجهزتها الأمنية، واعتبر أن تحدي القضاء للحكومة قد اثر سلباً على النمو الاقتصادي، وأخاف المستثمرين الأجانب وزعزع الجهود لمواجهة الإرهاب، وأضر بمعنويات الشرطة، وكل هذا أدى إلى انتشار نفوذ «طالبان».

إن إعلان حالة الطوارئ محاولة من مشرّف للبقاء في السلطة وتأجيل الانتخابات بسبب الضغط الذي يمارسه عليه حلفاؤه في الحكم حزب «القائد الأعظم» (الرابطة الإسلامية) الذين يشعرون بأن الهزيمة في انتظارهم إذا ما جرت الانتخابات في موعدها، كما انهم يعارضون بشدة التحالف المتوقع بين مشرّف وزعيمة حزب الشعب بنازير بوتو. أيضا كان مشرّف وعد بالتخلي عن منصبه كقائد أعلى للقوات المسلحة. لكن سجله مليء بعدم الالتزام بالوعود، وهذا الوعد أثار الشكوك لدى أعضاء المحكمة العليا فاستمروا في تحديه حتى أعلن حالة الطوارئ.

يقول لي دبلوماسي باكستاني: «إن مشرّف قاس الأمور، فإما أن يتخلى عن الديمقراطية ويواصل حربه على الإرهاب، وإما أن ينقذ الديمقراطية غير المعترف بها خارج النخبة ويتوقف عن محاربة الإرهاب ويشّرع الوضع الباكستاني للمجهول».

في الواقع، إن أقدام مشرّف على هذه الخطوة / المغامرة يعود إلى رغبته في إنقاذ حياته السياسية أكثر منها إنقاذ نظامه. فمنذ عام 1999 وهو يناور ليتهرب من الضغوط التي تطالبه بالتخلي عن زيه العسكري، وان يكتفي بالزعامة المدنية. لكن مشرّف يدرك ما يحاول الكثيرون تجاهله أو حتى يعرفونه، أن سلطته وشرعيته تأتيان بسبب منصبه العسكري، وإذا تخلى عنه، فإنه يعطي القيادة والسلطة القصوى لمن سيخلفه في المنصب العسكري، ورغم انه اختار خليفته بدقة، لكنه يعرف انه سيكون القائد الأعلى للقوات المسلحة وبالتالي تصبح السلطة السياسية تابعة له، ولم يكن مشرّف ليسمح بذلك.

لقد أدانت واشنطن ولندن والمجموعة الأوروبية قرار مشرّف، لكن واشنطن بالذات تبقى اولوياتها منصبة على «الحرب على الإرهاب». وربما يعود سبب خيبة واشنطن ولندن من خطوة مشرّف الأخيرة أنها توجه لطمة قوية لجهودهما الساعية الى تشجيع الاتصال والتنسيق بينه وبين بنازير. ثم ان دعم واشنطن لمشرّف يتعرض للمساءلة داخل باكستان والولايات المتحدة، وقد يكون أغاظها، أن إعلان مشرّف حالة الطوارئ أظهر محدودية تأثيرها، إذ ان وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس أكثرت من اتصالاتها في الأسابيع الأخيرة لتؤكد ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها في شهر كانون الثاني (يناير) المقبل، وكان مقرراً أن تصل إلى باكستان هذا الأسبوع. ثم ان خطوة مشرّف تثير الأسئلة حول صدقية سياسته الخارجية.

في الواقع، إن لواشنطن أمرين يهمانها: الأول، أن تظل باكستان تواجه الإسلاميين المتطرفين على طول الحدود مع أفغانستان، والثاني، إنها تريد حكومة قادرة على المحافظة على وحدة باكستان وتمنع الانهيار الداخلي. ولهذا، ومهما كانت التنديدات العلنية وتحذير الإدارة الاميركية من المس بالعملية الديمقراطية، غير المنتشرة أساسا في كل المدن الباكستانية، فان أكثر ما تتطلع إليه واشنطن هو ألا يكون لمفعول إعلان الطوارئ ارتداد سلبي. إن التهديدات الاميركية بمراجعة الدعم المالي لباكستان تبقى تهديدات في الهواء، لأن العمل على الإطاحة بمشرّف للإتيان بحكومة أكثر ديمقراطية يمكن أن يأتي بقيادة باكستانية تعارض العلاقات الوثيقة مع واشنطن (الانتخابات الفلسطينية وفوز حماس مثال على ذلك). إن المشاعر المتدينة في باكستان مرتفعة جداً، والكراهية لأميركا منتشرة، والضغط لتفعيل الديمقراطية يمكن أن يطلق العنان لكل هذه الأحاسيس مما يهدد العمليات العسكرية الاميركية في أفغانستان، ويؤثر على قدرة واشنطن في الضغط على باكستان لمواجهة مقاتلي «القاعدة» المختبئين في أراضيها الحدودية.

يستطيع الغرب أن يفكر بالإتيان برجل قوي ليحل محل مشرّف، وليس معروفاً إذا كان هذا بحل، نظراً لعدم توفر مثل هذا البديل. ويعرف مشرّف هذا الأمر، بالإضافة إلى معرفته بأن انهيار حكومته قد يسبب اللا استقرار في باكستان، وهذا ليس من مصلحة الغرب أو أميركا. ثم ان الفوضى في باكستان لن تسمح للقوات الاميركية بشن عمليات ناجحة على المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان. كما ان انهيار سيطرة حكومة مشرّف على المناطق الحدودية، وتدخل القوات الاميركية في تلك المناطق، يمكن أن يؤديا إلى ثورة تشعلها قبائل الباشتون، فيتزعزع الاستقرار النسبي في أفغانستان. ليس من احد ضد الديمقراطية، لكن من يعرف باكستان بكل مناطقها المعقدة والصعبة وقبائلها المتصارعة يعرف أن دعم الديمقراطية هناك قد يكون حلاً على المدى القصير، سرعان ما يؤدي إلى إغراق باكستان في الفوضى، ويسمح بظهور وسيطرة كل العناصر الإسلامية المتطرفة المعادية للغرب وللانفتاح على العالم.

إن المحافظة على الاستقرار في باكستان، تحمي تلك البلاد وتقصّر من فترة حكم الطوارئ، حتى لو كان ذلك الاستقرار يعود إلى حكومة متسلطة. لقد دعمت واشنطن مشرّف لأنه كان عاملَ استقرار رئيسياً في المعادلة الباكستانية، ثم ان المؤسسة العسكرية الباكستانية كانت، ومنذ البداية، ضمانة الدولة الأساسية والحَكَم في السياسات الباكستانية. إن باكستان كيان منقسم على ذاته، ومهما كان شكل الدولة التي تجمع هذا الكيان، أكانت ديمقراطية أو عسكرية أو إسلامية، فان الخطر على باكستان يأتي من الانقسامات العرقية داخلها.

عندما حكمت بوتو أو شريف، لم يكن العالم يواجه الحرب على الإرهاب بعد، وكان الاثنان يدعمان «طالبان» في باكستان، أو المجاهدين، وكانا يدعمان جيوبهم. ثم ان واشنطن التي تنادي بالديمقراطية في باكستان، هي نفسها ضغطت على مشرّف ليتنازل عن القضية المرفوعة على بوتو بتهمة الفساد وسرقة مئات الملايين من الدولارات، هذا التناقض في القيم سببه المصلحة الاميركية. الآن وبعد دخول المنطقة من باكستان وأفغانستان حتى غزة، في المجهول المخيف، تظل باكستان في حاجة الى عسكري قوي يحمي تماسكها. إن المؤسسة العسكرية في باكستان تحمي تماسك ذلك المجتمع، ومشرّف يعرف ذلك، وبنازير أيضا، وكذلك واشنطن، أما «القاعدة» و«طالبان» فانهما يراقبان، علّ الضغوط تستمر، فتسقط الثمرة في حضنيهما. والمطلوب الآن ليس أكثر من العمل على جعل فترة الطوارئ قصيرة الأمد.