لبنانيات: مانديللا

TT

طرح العماد ميشال عون نفسه خلال الحرب الأهلية بطل تحرير لبنان من سورية. ثم بطل تحرير لبنان من القوات اللبنانية والموانئ غير الشرعية. وانشق البلد الى حكومتين وقيادتين للجيش، إحداهما بزعامته. وبعدها حكم عليه بالنفي في قرار اعتبرته يومها، والآن، والى الأبد، قراراً همجياً، إذ كيف يحرم مواطن من موطنه. وفي باريس طرح عون نفسه على أنه ديغول لبنان أو جورج واشنطن أو نابوليون. وكان كل أسبوع على الأقل يدعو الى تحرير لبنان من سورية ومن «حزب الله». وعندما عاد تغيرت الأمور وأصبح حليفاً لجميع خصوم الأمس. وهذا أمر عادي في لبنان، ففي المقابل تحول حلفاء سورية الى موقع الخصم، وأعلنوا أنهم مددوا للرئيس إميل لحود بالإكراه. وصار من الصعب ملاحقة التحولات السياسية. فالذين كانوا من غلاة «القوات اللبنانية» أصبحوا في دائرة «الوفاء لسورية»، وبعض الأحزاب التي ذهبت الى الخنادق ضد الفلسطينيين وسورية، انتقلت الى خندق القتال في سبيل سورية.

وما أردت قوله من خلال هذه الشواهد المعروفة، إن العماد عون في نهاية المطاف، جزء من بلد صغير محكوم بسياسة البقائيات ونقل مواقع الاسترضاء والانقلاب على النفس قبل الانقلاب على الآخرين. لكن الفارق هنا أن الآخرين، في أكثريتهم، ليسوا زعماء تيارات شعبية، وليسوا، خصوصاً، مرشحين للرئاسة منذ حوالى ربع قرن.

وإنني أسأل نفسي اليوم، ماذا لو تواضع ميشال عون قليلاً وبدل ديغول ونابوليون، طرح نفسه على اللبنانيين، جميع اللبنانيين، انه نلسون مانديللا. إنه رجل المصالحة والقفز فوق الثأر والانقسام. انه رجل المحبة والسماح والدعة الذي يريد أن يحتضن الوطن. ماذا لو وقف عون على سلم الطائرة الفرنسية العائدة به وقال للبنانيين: ها هو المنفى خلفي وسنوات المنفى ورائي ولن اظلم أحداً كما ظُلمت ولن انتقم من أحد كما انتقموا مني، ولا هم لي الآن كما لا هم لي من قبل، سوى اللبنانيين ولبنان ووجود لبنان.

لكن العماد عون عاد ليحصي المقاعد النيابية التي خسرها لا التي ربحها. وإذ خرجت الناس لاستقباله لدى وصوله، أسكت الأصوات المرحبة متضايقاً. وبدل أن يقول إنه عائد ليشِّرف نفسه بموقع الرئاسة صدرت المقالات والكتب والملصقات التي تقول: «الرجل الذي تسعى الرئاسة إليه».

ترى هل يحق للرجل الذي «تسعى الرئاسة إليه»، إذا ما وصل إليها، أن يذهب في عيد الاستقلال ليضع إكليلاً من الزهر على «قبر الجندي المجهول»؟ هل يتعالى أحد على شعبه.

كنا نعتقد ذات يوم بَعُد كثيراً الآن، أن ميشال عون سوف يكرر تجربة فؤاد شهاب. لكن للأسف لم يكرر سوى تجربته. لا أحد أكبر من وطنه، إلا إذا ارتقى الى مانديللا. الى قمة السماح والتواضع، عندها فقط، يصبح أكبر من وطنه.

الى اللقاء